ثار لغط كبير فى الأيام القليلة الماضية حول جزيرتى تيران وصنافير، وتحدث فى شأنهما غير المختصين على غير علم وعلى غير هدي، وسارع كل هاو للشهرة أو معارض للسلطة أو مدافع عنها بحق أو بغير حق للحديث فيما لا يعرف، فاختلط الحابل بالنابل. ومن ثم فإننى أكتب هذا المقال لا أبغى به سوى وجه الله والوطن، بياناً للحقيقة وجلاءً لما ران عليها من غبار، فاسجل النقاط التالية: أولاً: لاشك فى أن أجهزة الدولة المعنية قد جانبها الصواب فى طريقة اخراج اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع السعودية عندما لم تمهد للأمر وتهيئ الرأى العام له قبلها بفترة معقولة، وتعاملت معه بذات الطريقة التقليدية القديمة دون ادراك للتغير الكبير الذى أصابه منذ ثورة يناير وحتى الآن، ودون التحسب إلى أن كل أقوال النظام وأفعاله محسوبة عليه من قبل كارهيه وأعدائه فى الداخل والخارج وهم كثر. ثانياً: ولا شك أيضاً فى أن هذه الأجهزة قد أخفقت بشكل كبير فى التعامل مع الأزمة بعد تفجرها، فجاء بيانا وزارة الخارجية ورئاسة مجلس الوزراء فى غاية الضعف والوهن، وأثارا من الأسئلة وعلامات الاستفهام أكثر مما قدما من الأجوبة. ولو أنه كان قد تم صياغة هذين البيانين من قبل المتخصصين من أساتذة القانون الدولى لربما كانا قد أجابا على كثير من التساؤلات وتم وأد الفتنة فى مهدها. ثالثاً: أن عملية تعيين وترسيم الحدود الدولية، وعلى الأخص الحدود البحرية، هى مسألة فنية دقيقة فى غاية التعقيد، يشارك فيها المتخصصون من رجال القانون والمساحة والجغرافيا والتاريخ وغيرها. ومن ثم فإنه من الطبيعى أن يستغرق العمل فيها فترات طويلة تمتد لسنوات، وهو ما حدث فى شأن الاتفاق الأخير. وغاية ما يمكن أن تقدمه اللجان المختصة فى هذا الصدد للرأى العام هو احاطته علماً فى ضوء ما يسمح به المقام - بما يحدث، دون الوصول إلى حد فتح حوار مجتمعى حول الأمر كما طالب البعض. رابعاً: تثبت الوثائق الدولية ذات الصلة كافة وبما لا يدع مجالاً للشك أن الجزيرتين سعوديتان وليستا مصريتين، وأن حيازة مصر لهما منذ بداية خمسينيات القرن الماضى لا تعنى بحال نقل السيادة عليهما إليها. فحيازة مصر للجزيرتين، أو إن شئنا الدقة فلنقل إدارة مصر للجزيرتين، تمت بإذن من الدولة السعودية صاحبة السيادة عليهما، للاعتبارات الاستراتيجية الخاصة بالصراع العربى الإسرائيلى ولإغلاق المضيق فى وجه الملاحة الإسرائيلية، وهو ما لم يعد له محل بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وما أوردته المادة الخامسة منها فى شأن حرية المرور العابر لسفن كل من الدولتين فيه. وتماثل حالة الإدارة هذه ما كانت تقوم به مصر من إدارة لقطاع غزة منذ عام 1950 تقريباً وحتى احتلاله من جانب إسرائيل عام 1967، كما تماثل الإدارة السودانية لحلايب وشلاتين فى فترة زمنية سابقة بإذن من مصر صاحبة السيادة عليهما لاعتبارات اجتماعية وسكانية معينة. خامساً: إن ما تم فى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الأخيرة هو إعمال للقواعد العامة فى شأن تحديد الحدود البحرية بين الدول المتقابلة والمتجاورة والذى حددته اتفاقية الأممالمتحدة لقانون البحار لعام 1982، والتى تقرر فى مادتها الخامسة عشرة اللجوء إلى قاعدة خط المنتصف إذا كان اتساع البحر لا يسمح بحصول كل من الدولتين على المساحة البحرية المحددة، وهى اثنا عشر ميلاً بحرياً فى خصوص البحر الإقليمي. وإعمال هذه القاعدة يؤكد أن الجزيرتين تقعان تماماً فى المياه الإقليمية السعودية. سادساً: إن الحديث عن أن الاتفاقية تحوى تنازلاً عن جزء من الأرض المصرية، وهو ما لا يقبله أحد من شعب مصر، ولا يملكه أحد على الاطلاق بما فى ذلك رئيس الجمهورية، وفقاً للفقرة الأخيرة من المادة 151 من الدستور، هو حديث لا محل له من قريب أو بعيد، فالجزيرتان ليستا أرضاً مصرية حتى يقال إنه قد تم التنازل عنهما. وأما الحديث عن وجوب استفتاء الشعب استناداً إلى كون الموضوع من بين موضوعات السيادة فمردود عليه بأن الموضوع لا علاقة له بالسيادة وإنما هو قرار بإعادة وديعة إلى أصحابها. وغاية الأمر أننا إزاء معاهدة دولية يتعين لنفاذها تصديق كل من رئيس الدولة ومجلس النواب عليها، ومن ثم فإن الكرة الآن فى ملعب مجلس النواب، والذى يتعين عليه أن يدرس الموضوع دراسة قانونية وفنية متخصصة قبل أن يتخذ قراره بالتصديق على المعاهدة أو عدم التصديق عليها. وأخيراً: فإن حالة الجدل السقيم العقيم الذى شهدناه فى الأيام الأخيرة فى شأن الجزيرتين، مع المخاطر الجسيمة التى تمر بها مصر والمنطقة العربية برمتها وتحيط بهما من كل حدب وصوب، ذكرتنى أى هذه الحالة - بما أشار إليه أستاذى الجليل الأستاذ الدكتور عز الدين فودة فى دراسته الرائعة «فى النظرية العامة للحدود» التى صدر بها كتاب «حدود مصر الدولية» الصادر عن مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة عام 1993، حين ذكر فى معرض انتقاده لخلافاتنا حول الحدود فى الوقت الذى يفعل فيه أعداؤنا بنا الأفاعيل، أن «ذو الرمة» الشاعر الأموى الشهير كان يحكى عن نفسه أنه عندما يأتى المساء لا يجد شيئاً يفعله سوى أن يرسم خطاً بيديه فى الرمل، ثم يمسح هذا الخط، ويعيد رسمه مرة أخري، وهكذا، تاركاً الغربان فى ذات الوقت تلعب فى قلب الدار. ثم أنشد يقول: عشية مالى حيلة غير أنني/ بلقط الحصى والخط فى الترب مولع.. أخط وأمحو الخط ثم أعيده/ بكفى والغربان فى الدار وقع.. فهل من حياة لمن ننادى ؟ أم أننا نسعى إلى أسماع أموات؟ لمزيد من مقالات د. محمد شوقى عبدالعال