مرت مظاهرات «جمعة الأرض» بردًا وسلامًا على مصرنا، وخابت توقعات المراهنين على أنها ستكون كالإعصار الجارف الذى سيقتلع فى طريقه مَن يفكر فى الوقوف فى وجهه، وبنوا توقعاتهم غير البريئة على أن الذين تجاوبوا مع دعوات التظاهر القادمة من كل صوب وحدب سينقلون ما يعتمل داخلهم من غضب على إعلان أن جزيرتى «تيران» « وصنافير» سعوديتان للجموع الصامتة المترددة فى الخروج للشارع، للتعبير عن تمسكها بأنهما مصريتان، ويختلط الحابل بالنابل ولا يعلو صوت فوق صوت الفوضى والتخريب. وبرغم قلة أعداد المشاركين فى جمعة الأرض التقديرات أنهم كانوا بضعة آلاف فسيكون من سوء الطالع والتقدير إغفال المعانى والدلالات الكامنة خلف مشاركتهم، أو القول إن تلك المظاهرات كانت ظاهرة غير صحية، وعورة يستوجب إخفاؤها على وجه السرعة، وأن معظم الخارجين فيها من طائفة العملاء، والخونة، والمتآمرين، وهى نغمة يرددها ولا يزال حملة المباخر، وانصار إعلام التعبئة، والصوت الواحد. وعلى منتقدى ومهاجمى مظاهرات الجمعة مراجعة موقفهم السلبى بشأنها فى ضوء المعطيات التالية: أولا: أنه لا احد بمقدوره انكار حق الرأى العام الأصيل والمقدس فى التعبير عن نفسه بوسائل وأدوات عديدة، من بينها التظاهر السلمى، حتى لو جاءت مواقفه مخالفة وعلى غير هوى الحكومة والسلطة، ومن غير الجائز إسقاط هذه القاعدة من تفكير وحسابات صانعى القرار، فلابد من احترام الرأى العام، والاستماع لصوته بعيدا عن تشويش الأبواق التى تسارع إلى وصم المعارضين بخيانة الوطن، وهؤلاء وبحكم أنهم يسيرون مع الرائج لا يتورعون ولا يخجلون من الوقوع فى فخ التناقض بالاستعانة بآراء بعض الخائنين إن كانت متوافقة مع رأى الحكومة وتوجهها. كذلك فإن صدر الدولة وأجهزتها يجب أن يتسع للأصوات المعارضة ولا يضيق بها، مادامت تبغى مصلحة الوطن، وتحافظ على مقدراته وممتلكاته العامة والخاصة، فالمعارضة مفيدة لصحة المجتمع ولجهازه العصبى، فهى تحدث التوازن، وتمنع تصلب شرايين المجتمع. وفقط للتذكير فإن الكتابات التى تناولت عهود عبد الناصر، والسادات، ومبارك أجمعت على أنها كانت تخنق المعارضة ولا تقبل وجودها من الأساس، وتركت الساحة ليصول ويجول فيها المؤيدون، والمبايعون، والمطبلون، وكذابو الزفة، وتعاطت مع المعارضة على أنها وردة للزينة وقت الحاجة، النتيجة كانت كوارث كلنا يعلم حجمها، ومداها، وتوابعها التى نكتوى بنارها حتى الآن. تجارب الماضى القريب تعلمنا أيضا أنه من الخطأ الذى يرقى لمستوى الجريمة أن نستهين ونستخف بشحنات الغضب وعدم الرضا العام، حتى لو كانت صغيرة لا تُرى بالعين المجردة، فالصغير يكبر لنفاجأ به وقد بات وحشًا ضخمًا لا ندرى كيفية مواجهته والتغلب عليه، ونحن فى غنى عن ارتكاب ذات الأخطاء المهلكة. الحقيقة الأخرى التى يتعين عدم نسيانها أن الأجيال الحالية شفيت من عقدة الخوف المزمنة التى كبلته طويلا، ولم يعد يحسبها كثيرًا قبل الانخراط فى المظاهرات، علاوة على أن أجيالنا الشابة تفتقد الكيانات السياسية المنظمة القادرة على استيعابها وايصال صوتها للدوائر الأعلى فى السلطة، فلا تجد أمامها سوى تنظيمات سرية كالإخوان، والتكفيريين المعلوم مسبقا ميلهما للخراب والتدمير، والاشتراكيين الثوريين، و6 ابريل اللذين لا يعجبهما أى شيء. إن حياتنا السياسية والحزبية شديدة الفقر والتواضع، وإن سارت بشكلها الراهن فلا أمل يُرجى ويُنتظر منها، فهى تجمعات مصالح هشة قابلة للانهيار لدى مرور نسمة هواء خفيفة، فالعشوائية والتخبط مسيطرة عليها، وهو ما يحرم مصر من التمتع بنظام سياسى متماسك البنيان باستطاعته احتواء واجتذاب كل ألوان الطيف المشكلة للنسيج الاجتماعى والتعبير عنها، أما حياتنا البرلمانية فهى محزنة وغير مشجعة بأدائها المترهل غير المنضبط، فكم مرة هدد رئيس مجلس النواب بإلغاء انعقاد الجلسة لعدم اكتمال النصاب القانونى لها لقلة عدد الحاضرين، بل إن النواب غابوا عن جلسات مناقشة بيان الحكومة، فماذا عسانا نتوقع ونترقب منهم بشأن قضايانا المصيرية؟ ثانيا: إن هناك فجوة من عدم الثقة بين المواطنين والحكومة ومؤسسات الدولة ومطلوب تجاوزها بزيادة جرعة الثقة المتبادلة، وبدونها الثقة فإن جهودًا عديدة للتحديث والتطوير لن تؤتى ثمارها وستذهب سدى. وجانب من الجوانب الواجب النظر إليها جيدا فى مظاهرات الجمعة الماضى أنها كانت اختبارًا للدولة وأجهزتها الأمنية، وأعُدت سيناريوهات شريرة على أساس أن الشرطة ستتصرف بانفعال وستصدر عنها تجاوزات تصب مزيدًا من البنزين على النيران المشتعلة، ومن ثم تزيد دائرة الغضب والغاضبين اتساعًا وتلتهب الأجواء أكثر، وننخرط فى سجالات ومهاترات مطولة. لكن اعتقد أن الأجهزة الأمنية كانت واعية وفوتت الفرصة على الخبثاء الذين أعدوا العدة لاستدراجها لفخ التجاوز والعنف، وهذا مؤشر إيجابى. إن جمعة الأرض لم تكن شرًا مستطيرًا على الاطلاق كما صورها بعض الإعلاميين غير الأمناء، وباستثناء تجاوز بعض المشاركين فيها فى حق قواتنا المسلحة الباسلة، والرئيس السيسى، وهو أمر مرفوض كلية، فإنها تحتاج منا للتدبر لاستخلاص الدروس والفوائد. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي