حزب مصر أكتوبر: كلمة الرئيس السيسي في القمة العربية كاشفة لأوجاع المنطقة    رئيس مجلس السيادة السوداني يوجه دعوة رسمية لشيخ الأزهر لزيارة البلاد    17 صورة من جنازة هشام عرفات وزير النقل السابق - حضور رسمي والجثمان في المسجد    توريد الذهب الأصفر مستمرا| التحقق من جودة الأقماح ومراقبة حالة التخزين بالشون والصوامع    بالصور- محافظ الإسكندرية يبحث حلول أزمة القمامة في زيارة رسمية لألمانيا    جامعة الفيوم تنظم ندوة عن بث روح الانتماء في الطلاب    الرئيس العراقي يؤكد دعمه للشعب الفلسطيني لنيل حقوقه    وزير الدفاع السلوفاكي: رئيس الوزراء أصيب بأربع رصاصات ولا تزال حالته "خطيرة"    ستورمي دانيلز.. كيف يرى زوج ممثلة الأفلام الإباحية قضيتها ضد ترامب؟    الأهلي يعلن تجديد عقد فيرناندو مونزو لمدة 3 مواسم    الثنائي متشابهان.. خالد المولهي يكشف طريقة اللعب الأقرب للأهلي والترجي في نهائي إفريقيا (خاص)    تفاصيل اجتماع وزيرا الرياضة و التخطيط لتقييم العروض المتُقدمة لإدارة مدينة مصر الدولية للألعاب الأولمبية    بالصور- ضبط 7 أطنان أسماك مملحة فاسدة في كفر الشيخ    إيرادات فيلم "عالماشي" بعد 5 أسابيع من طرحه بالسينمات    هالة الشلقاني.. قصة حب عادل إمام الأولي والأخيرة    رامز جلال ونسرين طافش في «أخي فوق الشجرة» لأول مرة الليلة    القاهرة في المقدمة.. الصحة تكشف إحصائيات جديدة لنسب الإقلاع عن التدخين    وكيل الصحة بالقليوبية يتابع سير العمل بمستشفى القناطر الخيرية العام    وكيل الصحة بالشرقية يتفقد المركز الدولي لتطعيم المسافرين    قطع مياه الشرب عن 6 قرى في سمسطا ببني سويف.. تفاصيل    نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024 .. رابط ظهورها بالخطوات    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان أعمال تطوير مستشفى حميات ديروط (صور)    سفير فلسطين في موسكو: الوضع الكارثي في غزة يعيد إلى الأذهان حصار لينينجراد    أتلتيك بيلباو يحبط برشلونة بسبب ويليامز    فنانات إسبانيات يشاركن في الدورة الثانية من ملتقى «تمكين المرأة بالفن» في القاهرة    الجمعة .. انطلاق نصف نهائي بطولة العالم للإسكواش بمصر    عالم الزلازل الهولندي يثير الجدل بحديثه عن أهرامات الجيزة    «زراعة النواب» تطالب بوقف إهدار المال العام في جهاز تحسين الأراضي وحسم ملف العمالة بوزارة الزراعة    محافظ المنيا: قوافل بيطرية مجانية بقرى بني مزار    جامعة المنوفية تتقدم في تصنيف CWUR لعام 2024    تأكيدا ل"مصراوي".. تفاصيل تصاعد أزمة شيرين عبد الوهاب وروتانا    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات فلكيًا.. (أطول إجازة رسمية)    بمشاركة مصر والسعودية.. 5 صور من التدريب البحري المشترك (الموج الأحمر- 7)    العربية: مصر تواصل تكوين مخزون استراتيجي من النفط الخام بعشرات المليارات    ببرنامج "نُوَفّي".. مناقشات بين البنك الأوروبي ووزارة التعاون لدعم آفاق الاستثمار الخاص    معهد التغذية: نسيان شرب الماء يسبب الشعور بالتعب والإجهاد    قرار قضائي جديد بشأن سائق أوبر المتهم بالاعتداء على سيدة التجمع    أمير عيد يؤجل انتحاره لإنقاذ جاره في «دواعي السفر»    بدء التعاقد على الوصلات المنزلية لمشروع صرف صحي «الكولا» بسوهاج    "العربة" عرض مسرحي لفرقة القنطرة شرق بالإسماعيلية    توقيع بروتوكول تجديد التعاون بين جامعة بنها وجامعة ووهان الصينية    صحفي ب«اتحاد الإذاعات العربية»: رفح الفلسطينية خط أحمر    الأحد.. عمر الشناوي ضيف عمرو الليثي في "واحد من الناس"    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    «الداخلية»: ضبط 13 ألف قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    المشدد 6 سنوات لعامل ضبط بحوزته 72 لفافة هيروين في أسيوط    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العجوزة    وزيرا النقل والري يبحثان تنفيذ المحاور الرئيسية أعلي المجاري المائية والنيل (تفاصيل)    أنشيلوتي يقترب من رقم تاريخي مع ريال مدريد    نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024 عبر بوابة التعليم الأساسي (الموعد والرابط المباشر)    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13166 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    «القاهرة الإخبارية» ترصد آخر الاستعدادات للقمة العربية في البحرين قبل انطلاقها    كولر يحاضر لاعبى الأهلي قبل خوض المران الأول فى تونس    «الإفتاء» تحسم الجدل حول مشروعية المديح والابتهالات.. ماذا قالت؟    عبد العال: إمام عاشور وزيزو ليس لهما تأثير مع منتخب مصر    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اهلا يا انا
..ومازال صوته جسر الشجن الرقراق
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 04 - 2016

فوجئت بمن يخبرني بأن موقع إحدي الصحف الخاصة يقوم بنشر فصول كتاب حياتي الذي كتبته ونشرته في صباح الخير وصدر ككتاب عن مؤسسة روز اليوسف, وفوجئت بجراءة شاب يدعي أنه قام بالتدقيق في مادة الكتاب, وظهر في برنامج تليفزيوني بالقناة الثقافية, واكتفي بتعجل غير محمود ولا مقبول بذكر اسم أستاذنا لويس جريس أحد المؤسسين لصباح الخير, ثم اسمي, ومضي يتحدث عن الكتاب وعبد الحليم كأنه الذي كتب وسهر. فعل ذلك وكأن كتاب' حياتي' هو شركة قطاع عام سيستولي عليها غني حرب من أيام الانفتاح السداح مداح, لينسبها لنفسه بكاملها, فمادام الانفتاح قد قاد إلي السماح للقطاع الخاص أن يؤسس صحفا ومحطات تليفزيونية فقد صار من الممكن السطو علي جهد الغير.
اتصلت بصاحب الصحيفة الخاصة, فهو ابن صحفي خاض معركة استقلال الوطن بالكلمة, وكنت متأكدا أنه يرفض معي مثل هذا السطو غير المهذب, فطالبني- مشكورا- أن أكتب ردا يتم نشره بجريدته, ولما كانت رحلتي بالصحافة عبر ثمان وخمسين سنة لا تتوافق مع العمل في الصحف الخاصة, لذلك طالبته بأن يكتب هو وأن يقدم حق عرب لا لي, لأن دخلي من قلمي يكفي احتياجاتي, وإنما حق العرب فعليه أن يقدمه إلي مركز الرعاية الحرجة الذي أسسه د. شريف مختار فقد سبق لهذا المركز أن أنقذ حياتي. ووعدني بأن يفعل ذلك, لكنه وحتي كتابة هذه السطور لم يفعل.
حين رويت الحكاية لرئيس تحرير الأهرام, طلب مني أن أنشر بعضا من فصول حياة عبد الحليم. وحين تنشر سيدة الصحافة العربية الأهرام فذلك تعويض أدبي, فتوزيعها يفوق المطبوع من كل الصحف الخاصة. وإلي مسئول هذا الموقع الألكتروني أهمس في أذنه عيب, كان يجب أن تتصل بصاحب الكتاب بدلا من أن توقع مؤسستك في حادث سطو غير لائق.
كعادة مطربي هذا الزمان, لم يكتب أحدهم تاريخ ميلاده الصحيح, فمحمد عبد الوهاب لم يذكر أبدا تاريخ ميلاده الواقعي, فهو يسجل في جواز السفر تاريخ ميلاد يبدو فيه أصغر من عمره الفعلي, وهكذا فعلت أم كلثوم, ولم يشذ عبد الحليم عن تلك القاعدة, يصدق في تاريخ اليوم وهو الحادي والعشرين من يونيو, أما العام فهو عمليا إما1926 أو1929, وفي كل الأحوال تميز عبد الحليم بأنه المولود في حياة كل قصة حب بتاريخ ميلاد تلك القصة, وحتي نهاية وجود جسده علي هذه الأرض في الثلاثين من مارس عام1977, ولكن تاريخ رحيل الجسد لم يخصم من عمر هذا الفنان شيئا, فهو مولود مع كل رعشة فرح ميلاد أي قصة حب, ويترك شدوه خيوطا من دموع بنهاية القصة. و شدو عبد الحليم يتشارك مع شدو أم كلثوم في ميزة فريدة, فعندما تسمع أيا منهما تجد الغناء يخرج من قلبك مباشرة, أو أن هذا ما يحدث لي حين أسمع أيا منهما; بينما يظل أي غناء آخر يأتي من خارج قلبي, وحين قلت ذلك لواحد من سادة موسيقي زماننا كمال الطويل ابتسم ليقول لي أم كلثوم أتقنت ذلك لأنها تتمثل ما تغنيه ولا يشغلها جماليات صوتها فهي واثقة من جمال الصوت وقدراته, وأيضا عبد الحليم حافط يمثل ويتمثل ما يغنيه, ويعلم أن مشاعره الفعلية تسكن في صوته, وهو قد تعلم ذلك في معهد الموسيقي المسرحية الذي تخرجنا فيه معا. وكان لي تفسير يخصني لهذا الشجن الحزين في صوت عبد الحليم, فغناؤه نابع من شجن افتقاد الأم بهانة بعد ولادته مباشرة, وظل هذا الشجن يتلون في أغانيه إلي أن اختار كلمات من غير ليه لتكون الأغنية الأخيرة التي لم نسمعها بصوته, لكن هناك أغنية وصفها دائما بأنها توجز قصته وهي في يوم في شهر في سنة تهدي الجراح وتنام وعمر جرحي أنا أكبر من الأيام.
وظلت الجراح تطارده وتسير معه كأنها رفيقة كل الأيام وما بعد ذلك. ولا أنسي يوم أن ظل أحد الصحفيين يطارده في بابه الخبري يوميا, رغبة من الصحفي أن يكون مستشاره مقابل راتب شهري. وكان عبد الحليم يثق في أن أي مستشار من هذا النوع يمكن أن يبيعه لمن يدفع أكثر, وأن المستشار الحقيقي له هو مدي دقته في عمله, فضلا عن صداقاته مع مصطفي أمين وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم, وفوقهم جميعا هذا الراعي الصالح لأي موهبة لها قيمة وهو الشاعر كامل بك الشناوي; وكل هؤلاء الكبار هم مستشارون يمنحون ولا يأخذون. وبعد أن تمادي ذلك الصحفي في إتهام عبد الحليم بأنه يستغل مرضه من اجل استدرار تعاطف الجمهور, استدعاه عبد الحليم ليقف أمام الشيفونيرة التي أمام سريريه ليمسك بزجاجة كولونيا جايفنجي ليرش منها حول وجهه ورقبته, ثم فتح قميصه زرارا من بعد زرار, ورفع فانلته الداخلية ليظهر أثر عملية جراحية يتمد من أعلي القفص الصدري إلي السرة, ويتقاطع هذا الأثر بأثر آخر يمتد من تحت الأضلع كلها, فبدا أثر الجراحتين كأنه صليب بقي علي بطنه, فبدا كمن يخفي صليبه الذي يقاوم به النهاية. قال عبد الحليم هذا هو بعض من أثر المرض الذي تقول أني أدعيه. وطبعا اصفر وجه الصحفي ليسمع عبد الحليم وهو يقول خذ زجاجة الكولونيا التي تحبها, وحين أمسك الصحفي بزجاجة الكولونيا, فتح عبد الحليم درج الشيفونيرة وأخرج جوربين جديدين, قائلا هدية متواضعة, حتي تكتب عني بطريقة أفضل.
ولم يقل شيئا عن صرخة نهاية بهانه في بيت ريفي متواضع بقرية الحلوات بعد أن وهبتنا عبد الحليم. وطبعا لم يكن يعلم لحظة لقائه ذلك الصحفي حين صرخ بالنهاية في آواخر مارس بغرفة مستشفي لندن ليغادر الجسد المصلوب بآلامه تلك الحياة لكن تبقي أغانيه تمنحنا شجن إحترام عواطفنا.
وبين الصرختين دارت حياة فنان ترفرف علي أجنحة صوته أحاسيس قصص الحب.
وشاء عبد الحليم أن يختارني لكي أحكي الحكاية بدءا من صافيني مرة وجافيني مرة إلي بصرت ونجمت كثيرا لكني لم أقرأ فنجانا يشبه فنجانك, ومن الغريب أن كثيرا من التفاصيل تنفجر في الذاكرة أو تهفهف علي الوجدان فتبدو حكاية عبد الحليم جديدة رغم قرابة أربعين عاما علي رحيله.
................................
هاهو عبد الحليم يقف في حديقة الأندلس في مساء يوم من أيام مايو1964 ليصور بعضا من لقطات فيلمه معبودة الجماهير مع شادية. وكنت أقف في مكان التصوير, والحاج وحيد فريد شريكه في صوت الفن يقول له فاكر ؟.
وقال عبد الحليم وهل هذا شيء يمكن نسيانه ؟.
قلت: من تلك الحديقة ومن هذا المسرح بدأت رحلة الذوبان في مشاعر الناس. هذا زمن لا يغيب أبدا عن ذاكرتي. ولون أزهار وأشجار حديقة الأندلس يمكن أن يعبر عن خوف وقلق عبد الحليم في ذلك المساء من عام1953 وفنان الشعب يوسف بك وهبي يقول إليكم صوت ستحبونه كثيرا الفنان عبد الحليم حافظ. كان عبد الحليم قد طلب من يوسف وهبي ألا يفتتح الحفل به. قال عبد الحليم: تعرف أن الجمهور في بداية أي حفل; لا يكون في حالة الاندماج المناسبة لسماع أي مطرب; والمطرب الذي يتم افتتاح الحفل به في الحفلات الجماعية يعرض نفسه للحرق. يعني لن يسمعه أحد بتركيز.
وقطع حوارنا المصور وحيد فريد لينادي عبد الحليم ليركب دراجة ويغني.
ولم يكن عبد الحليم في حاجة لأن يقول لي بقية تفاصيل الحفل الأول; فقد كنت أسمع له يوميا وأسجل في يومياتي ما يقول. كان قد طلب مني أن أجمع ما يقوله لي في أي لقاء ليكون مادة لمذكراته.
قال لي ونحن نسير في شارع الشانزليزيه في باريس يوم4 يناير عام1964 سأغني لك في يوم عيد ميلادك; شرط أن تغني أنت بأسلوبك تفاصيل حياتي. قلت له: الفنان الوحيد الذي كتبت قصة حياته هو الفنان الرسام المصور سيف وانلي. وعندما جاءت تفاصيل قصص حبه خاف. ضحك عبد الحليم: أنا لن أخاف. سأحكي لك عن أول بنت جيران أحببتها إلي آخر قصة حب. قلت: هل ستحكي عن ليلي؟
قال: سأحكي عن ليلي وعن غيرها ؟ قلت: مقلدا صوته في يوم في شهر في سنة تهدي الجراح وتنام وعمر جرحي أنا أكبر من الأيام. وامتلأ وجه عبد الحليم بحزن يخفيه دائما, ولكن تكشفه كلمات تلك الأغنية.
وأعترف بأن هذه الأغنية هي المفتاح الأساسي لشخصية عبد الحليم حافظ; فمهما ضحك, ومهما اندمج; فكلمات هذه الأغنية هي الجرح الكبير; الجرح الذي جاء منه هو بطن أمه السيدة بهانة التي ولدته في21 يونية; لتنزف وتودع الحياة دون أن يتذكرها, وجرح وقوفه أمام مصطفي بك رضا رئيس لجنة الاستماع للأصوات الجديدة في الإذاعة, ثم مفاجأة مصطفي رضا القاسية يا ابني أنت تغني مثل الخواجات; الغناء الشرقي مختلف. لم يكن مصطفي رضا يعلم أن عبد الحليم هو من كان يطرب الفرس لغنائه وهو طفل في مولد جده الشيخ شبانه. لم يكن مصطفي رضا يعلم أن جد عبد الحليم هو شيخ الطريقة الصوفية المسماة الطريقة الشبانية وشهرة هذه الطريقة أن الفرس أي فرس يرقص علي صوت أي منشد فيها حتي ولو لم تصحبه آلات. الشيخ شبانة الكبير كان حادي القافلة التي تقطع المسافة بين جبل الطور وبين مكة المكرمة والمدينة المنورة. وحادي القافلة لا يملك إلا بصيرته وصوته; ومناجاة السماء بهمس خافت مسموع.
شبانة الكبير جاء من ريف مصر ليري امرأة في سوق الحلوات بمحافظة الشرقية, فيرتبط قلبه بها; ويتقدم لوالدها; ولا يجرؤ رجل أن يرفض نسبا مع واحد يحب بلدة النبي صلي الله عليه وسلم. وكان الزواج الذي أنجب به شبانه الأبناء الذين انتشروا في بر مصر شمالها وجنوبها.
والطريقة الشبانية التي تنتمي لها عائلة عبد الحليم تقيم مولدا سنويا لسيدي شبانة الكبير. وعبد الحليم الطفل الصغير كان يمتلئ بالزهق من ضجيج المولد, لأن أحدا في المولد لا ينتبه إلي ما يفعله الآخرون, لكن هناك لحظة من الصمت تسود المولد; حين يبدأ أحد الشبانية في العزف بالمزمار ليرقص الخيل علي أنغامه; وليبدأ صوت أحد الشبانية في الغناء فيردد الجميع وراءه ذكر الله والصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم. وحين كان عبد الحليم في السابعة طلبوا منه أن يؤذن في الجامع آذان العشاء إيذانا ببدء المولد بعد صلاة العشاء. مازال يذكر صوت خالته نعيمة وهي تقول له صوتك ندي وطري وحنين.. ربنا يحبب فيك خلقه هل هبطت هالة القبول من السماء في تلك اللحظة لتلف عبد الحليم طوال عمره ؟
هو لا يعرف; ولكنه يعرف أن أحدا من الكبار لا يضربه أبدا, حتي عندما هجم عليه حصان شرس في المولد; لم يقترب منه أحد, لكن الحصان راح يمسح وجه عبد الحليم برأسه. وقال الناس يا حلاوة النبي يابركة المدااد. وقام عبد الحليم ليستقر بجانب الشباني الذي ينفخ في المزمار لترقص الخيل. وأعطي الشباني عبد الحليم المزمار; فوجد عبد الحليم نفسه وهو قادر علي النفخ في المزمار وإصدار نفس الأنغام التي يرقص الخيل عليها.
وفي الكبر حين التحق عبد الحليم بالمعهد العالي للموسيقي اختار له محمد حسن الشجاعي المؤلف الموسيقي المشهور والأستاذ بالمعهد أن يدرس آلة الآبوا; وهي من أصعب آلات العزف. استعملها عبد الوهاب في الحبيب المجهول وسجي الليل. ويصفها عبد الحليم بأنها المزمار البلدي الذي سافر إلي أوربا وعاد أنيقا وله إمكانات مختلفة, تماما كما سافرت ليالي الموالد من الشرق إلي الغرب, ثم عادت في شكل قصص موسيقية يقال عنها الأوبرا
..............
أخذت أسمع وأنا اقف في حديقة الأندلس عبد الحليم حافظ مع شادية في تناغم حاجة غريبة وليل حديقة الأندلس يحمل نسمة هواء في صيف القاهرة الساخن.
..............
كان الصيف ساخنا جدا حين قدم يوسف وهبي ليلة الاحتفال بعيد23 يوليو من علي مسرح الأندلس وكان المطرب الأول بعد نشرة الحادية عشرة مساء من راديو القاهرة و في أول ليلة من ليالي أضواء المدينة وفي حفلها الأول; هو عبد الحليم حافظ. وانفتح الستار علي ستين عازفا أمام كل منهم نوتة موسيقية. تذكر عبد الحليم أن يتمتم بسورة الواقعة قبل أن يبدأ الغناء. كان شيخ القرية يقول له إذا مررت بموقف صعب اقرأ سورة الواقعة سيسهل الله لك و تخرج المطب. يذكر أول مرة قرأ سورة الواقعة حين كان يلعب الاستغماية وهو طفل, واختبأ عبد الحليم خلف جدار بيت مهدم بالقرية وكان باب البيت هو الشيء الوحيد الثابت علي الأرض, وفجأة وقع الباب علي صخرة, ووجد عبد الحليم ساقه محشورة بين الصخرة والباب; وأسرع إليه شقيقه إسماعيل شبانة ليحمله علي حمار إلي الزقازيق; ليضع الطبيب ساقه في الجبس. كان عبد الحليم يتوقع أن يضربه إسماعيل, لكن إسماعيل جلس يبكي بجانبه بعد أن وضع الطبيب قدم عبد الحليم في الجبس. وحين انفتح الستار عن عبد الحليم كالمطرب الأول في الاحتفال الأول ب23 يوليو; كان يفكر في ألم مثل ألم وقوع الباب علي ساقه. صحيح أن خلفه ستين عازفا هم أعضاء الفرقة الماسية التي نشأت وتكونت دون تفكير مسبق في ذلك اليوم; وصحيح أيضا أنه يواجه أكبر تحد في حياته; فلسوف يغني بعده مطربون في حجم محمد فوزي وليلي مراد وفريد الأطرش وعبد العزيز محمود وكارم محمود, وسترقص سامية جمال ونعيمة عاكف, وسيلقي المنولوجات شكوكو وإسماعيل يس. لماذا لم يوجهوا الدعوة إلي تحية كاريوكا ؟ تحية ذات الموقف النبيل والكريم معه; حين طلب منه المعلم صديق صاحب مسرح لونا بارك في الإسكندرية أن يغني أغنيات عبد الوهاب ورفض; وصعد إلي المسرح يومها ليغني صافيني مرة. لكن جمهور الصيف لم يستسغ الغناء الراقي. ولكن حلم عبد الحليم في الوصول إلي الجمهور لم ينكسر فهو المصدق لرأي صديق عمره كمال الطويل في أنه مخلوق للغناء. وكان قد وقف لسنوات خلف كبار المطربين ليعزف علي الأبوا, ودرس خلف عبد الوهاب; لكنه راقب أم كلثوم ولم يقف وراءها في الفرقة; ذلك أن أم كلثوم لم تتنازل عن التخت الشرقي في العزف خلفها وهي تغني; ودرس فريد الأطرش وعبد الغني السيد وكارم محمود ومحمد فوزي. درس عبد الحليم أسلوب كل واحد من هؤلاء; وصدق رأي كمال الطويل في جمال صوته, وامتحن أمام أحد المؤسسين لمعهد الموسيقي مصطفي رضا, وغني أمامه أغنيات عبد الوهاب وأغنية لأم كلثوم. وفوجئ باعتراض لجنة الاستماع علي صوته, من خلال قول مصطفي رضا أنت بتغني غربي يا أستاذ عبد الحليم. كان عبد الحليم يظن أنه يقدم أغاني الكبار بسلاسة بدلا من التفاصيل المملة في الغناء القديم. لكن مصطفي رضا لم يعجبه ذلك.
وحين خرج راسبا في امتحان القبول كمطرب في الإذاعة; سار في الشارع علي غير هدي. وانتبه إلي أن سيارة مسرعة تكاد أن تدهم رجلا; فأسرعت يده تجر الرجل من أمام السيارة. واكتشف عبد الحليم أن الرجل الذي امتدت له يده لشده بعيدا عن السيارة المسرعة هو مصطفي رضا رئيس لجنة الاستماع التي رفضته منذ قليل.
قال مصطفي رضا أشكرك يا ابني, أنقذتني رغم أننا رفضنا أن نقيدك مطربا في الإذاعة.
ضحك عبد الحليم في وجهه قائلا له: أنا جريت أنقذ سيادتك; لأني خفت أن يتطور الغناء.
وضحك الرجل وهو يكرر نصائحه لعبد الحليم أن يغني غناء شرقيا لا غناء الخواجات. كان مصطفي رضا يري أن البساطة في الغناء هي غناء خواجات.
ولكن عبد الحليم يتقدم للامتحان مرة ثانية أمام لجنة استماع جديدة بناء علي اقتراح من حافظ عبد الوهاب أحد رواد الإذاعة الأول, اللجنة مكونة من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي. استمعت أم كلثوم وقالت الله. وانتشي عبد الوهاب وقال أعد. وقال محمد القصبجي مبروك. وقال رياض السنباطي أنت مكسب للغناء.
اندهش عبد الحليم لغياب تحية كاريوكا كراقصة في الحفل الساهر الاول لثورة23 يوليو, وحين سأل عنها أحد المسئولين عن الحفل, قال دي مجنونة.. زعلانة علشان قبضوا علي مصطفي كمال صدقي ضابط الحرس الحديدي, الذي كان حبيبا لناهد رشاد الوصيفة الأولي بقصر الملك فاروق, ولكنه تركها وأحب تحية كاريوكا. واعتقلته الثورة بتهمة أنه يتآمر علي نظام الحكم, ولذلك لم ترقص.
الآن يغني أمام جمهور مسرح الأندلس, وعلي الرغم من أنه أول المطربين إلا أن الحماس يبدأ والهدوء يسود. ولأول مرة يري الجمهور أوركسترا تعزف خلف المطرب, وأمام كل منهم نوتة موسيقية مكتوبة. كان الجمهور قد تعود علي أن يخرج المطرب ومعه راقصة يغني لها; هكذا كان يغني فريد الأطرش ومحمد فوزي وعبد العزيز محمود. المشهد الآن قد اختلف. كانت الصديقة القريبة من قلب عبد الحليم هي الراقصة ميمي فؤاد وكانت تقول له: أريد أن أرقص وأنت تغني. وكان عبد الحليم يقول لها ياريت, لكنه لم يكن يتصور نفسه مقلدا لفريد الأطرش أو محمد فوزي; وإذا كان قد رفض من قبل أن يقلد عبد الوهاب; فلن يقلد من يأتون في المرتبة التالية له, وهو ليس أقل من أم كلثوم أو عبد الوهاب; وابتسم حين رأي ميمي فؤاد قد حضرت الحفل ووقفت في الكواليس بعد أن طلقها محمد الموجي. تذكر كلماتها إن لم تتزوجني سأفضحك وأقول إنك غاوي حب ومنظرة وكلام. يضحك من تذكر تلك الكلمات حب و منظرة وكلام.
الحب هو جودة الإحساس بكلمات أي أغنية.
والمنظرة هي ترتيب شكل الفرقة التي تغني خلفه.
والكلام هو الرأي الذي سيقوله الجمهور بعد الحفل.
وغرق الجمهور في الصمت. كانت الصالة يسودها نفس السكون الذي قالت له عنه خالته نعيمة كان صوت جدك الشيخ شبانة لما ينشد في المولد تسكت له الطير.
................................
وحين نزل من علي المسرح كان قد غرق في العرق, وكانت أول من هنأته هي ليلي مراد, وكان أول من قال له أنت مطرب الثورة من هنا ورايح هو وجيه أباظة المشرف علي إعداد حفل عيد الثورة الأول.
**
وكان مسرح الأندلس في يونيو1964 يشهد وقوفه أمام شادية ليمثل القصة التقليدية لشاب أحب مطربة مشهورة; لكنها لم تلتفت له; إلي أن صار هو مطربا مشهورا; ونجح في الغناء. ولم ينس من أحبها في الزمن الأول.
أما عبد الحليم في ذلك الوقت فلم يكن يعرف ترتيبا لمن قال لهن كلمة أحبك هل هي الراقصة ؟ أم بنت الجيران في أيام الزقازيق بجانب بيت خاله ؟ أم هي بنت الذوات التي عانت التهابا في الغشاء المحيط بالمخ ؟ أم هي سعاد حسني التي وعدها أن يرسل لها سائقه عبد الفتاح ليتناولا العشاء مع كامل بك الشناوي في كافتيريا نايت أند داي بفندق سميراميس.
................................
قبل ذلك اللقاء في حديقة الأندلس, كان لنا لقاء في باريس بعد أن إنتهت أم كلثوم رجعوني عينيك لايامي اللي راحوا. كان برد الشتاء الباريسي يفوق التصور, لكن صوت عبد الحليم كان يتنقل بين الحلوة عنيك وبين جفنه علم الغزل ومن العشق ما قتل; وخطواتنا لها همس نسمعه ونحن نسير بين أشجار الشوارع نصف الملونة في الحي السادس عشر بباريس في أحد أيام فبراير1964, ولاحظنا بعضا من زهور صغيرة رغم قسوة الشتاء. وأخذ عبد الحليم يدندن جفنه علم الغزل.. ومن العشق ما قتل. وكنت أسمع صوته وأنا بجانبه كأنه يهمس في قلبي مباشرة. وكانت دقات قلبي تكاد أن تخرج من بين ضلوعي لتقول للشارع هس.. عبد الحليم يغني.
وبعد يومين من غناء أم كلثوم كان عندنا موعد مع شخصية فرنسية مرموقة طلبت مني أن يقبل عبد الحليم حافظ دعوة للغداء معها. وقد وافق عبد الحليم, سرنا وهو يدندن, وحين يدندن عبد الحليم كان الصمت ضرورة كيلا يبقي في الوجدان سوي هذا.
ولاحظ عبد الحليم أني غارق في الانتباه لصوته بشكل أخاذ, فقال: دي صنعة يا أستاذ. وضحك.
قلت: كل فنان في مجال ما; يظن أن الآخرين قادرون علي إتقان نفس ما يتقنه الفنان نفسه.
قال: إلا عبد الوهاب وأم كلثوم, فكلاهما يعرفان تماما قدرات أي مطرب أو موسيقي.
قلت: هيا بنا إلي موعدنا لنلتقي مع كلود إستيه رئيس تحرير صحيفة ليبراسيون, فأنت تعرف أنك تدينه بدعوة الغداء التي أقمتها له في بيتك بالقاهرة.
استغرب قائلا: أعوذ بالله, هل المسألة تصل إلي حد الدين ؟ لقد جاء إلي مصر وطلب مقابلتي كواحد ممن أحبهم المقاتلون الجزائريون; فدعوته علي الغداء; وتحدثنا أمامك عن كل شيء, بداية من فكرة عشق المقاتل الجزائري للحرية; ونهاية إلي تأثير الأغنية علي المشاعر. فهل هم يقيسون المسألة هنا بدعوة علي الغداء يجب ردها ؟
أقول: في جميع أنحاء العالم لابد من أن تكون هناك فكرة وراء قضاء بعض من الوقت علي طعام; ولعل الرجل يطلب التعرف علي مزيد من الوقائع عن الجزائر وتأثير الأغنيات علي الإنسان هناك, ولو كانت هناك أفكار أخري سنجدها أمامنا.
يقول لي عبد الحليم: وما الفكرة التي يمكن أن تكون وراء دعوة كلود إستيه لي ولك علي الغداء ؟
قلت: ستظهر كل الأفكار حين نجلس معه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.