وجدت أن أقرب تعبير عما أريد الحديث عنه هو لغة السينما .. فى إحدى القرى الصغيرة فى إيطالياجنوب صقلية، كان يعيش أحد زعماء المافيا المشهورين، وقد قام هذا الرجل بقتل زوجته، ويروى الفيلم أن الرجل كان لديه ببغاء، وأن هذا الطائر شاهد وسمع واقعة القتل، وظل طول الوقت يردد صرخة الزوجة الأخيرة قبل أن تموت «أنت قاتل.. أنت قاتل»، وكان زعيم المافيا كلما دخل أو خرج من منزله يشيعه ذلك الببغاء بتلك الصرخة وبصوت يشبه صوت زوجته المذبوحة.. قرر الرجل فى النهاية أن يذبح الببغاء، وبالفعل قام بذبحه وطهيه، ووضعه ضمن أطعمة أخرى على المائدة ودعا أهل القرية للعشاء.. وحين جلسوا حول المائدة كانوا ينظرون للببغاء المشوى بفخر، لأنهم كانوا جميعاً يعرفون بالجريمة، ولكنه كان الوحيد الذى جرؤ على الكلام.. مازلت أتذكر تلك الليالى الجميلة فى دور السينما الصيفية المفتوحة، حين كان يتم عرض ثلاثة أفلام أحياناً، وفى الغالب كان يتم إعادتها مرة أخرى.. وفى بعض الأحيان كانت آلة العرض تتعطل أو يكون الشريط رديئاً فيقفز بين الأحداث أو يتوقف تماماً.. وعندها كان الحضور يدقون الأرض بأقدامهم احتجاجاً وهم يهتفون فى عزم : «سيما أونطة.. هاتوا فلوسنا».. تذكرت كل ذلك بينما كنت أشاهد فى التليفزيون فيلماً مصرياً كلاسيكياً بالأبيض والأسود، حيث انتهى الفيلم كالعادة نهاية سعيدة.. انتصر الخير على الشر.. سرحت بخيالى طويلاً مفكراً: هل يمكن أن يكون لدينا حل سينمائى لأوجاعنا الحاضرة.. أم أن سبب أوجاعنا هو تلك الحلول السينمائية ؟ » .. الأوجاع كثيرة.. أقربها ذلك الشاب الإيطالى الذى مات فوق أرضنا بشكل وحشى وغامض.. كان عاشقاً لمصر، مثل إيطالى تاريخى آخر مارك أنطونيو- عشق كليوباترا ومات على أرضنا .. كيف مات؟ ولماذا تشوه جثمانه بهذا الشكل الرهيب؟ ومن له المصلحة فى قتله؟ أسئلة كثيرة.. فى البداية كانت الإجابة سهلة «حادث سير»، نفس الإجابة التى حملها جثمان الشهيد محمد الجندي.. لكن يبدو أن «الطلاينة» لم يبلعوا الحكاية، فتغير السيناريو إلى شاهد عيان جلس فى احدى الفضائيات يروى بتفصيل كيف أنه رأى الشاب الإيطالى ومعه شاب آخر «متعضل»، و.. و.. تفصيلات دقيقة وكأنه ينقل صوتا وصورة.. ومرة أخرى تتوارى الحكاية مثل فيلم سخيف، حيث تراجع الشاهد عن أقواله، واختفى تماماً، وكأنما كان الذى رواه حلم ليلة صيف.. ولا نعرف هل أجرى التحقيق معه ومع المذيع الذى استضافه كى يتم الكشف عن بعض الجوانب المظلمة لهذه القضية.. لقد كان ذلك الشاهد يتحدث بثقة كبيرة عما رآه ، وكان المذيع يمهد له ويصحح الرواية كلما بدا أنها تبتعد عن المعقول.. من أين أتى ذلك الشاهد، ومن الذى لقنه تلك الحكاية التى لا تختلف عن أى فيلم سينمائي.. والأهم أين ذهب ذلك الشاهد ؟ عندما استضافتنى إحدى الفضائيات لمناقشة الأبعاد المختلفة للحادث المذكور، وبينما كنت ومعى زميل سفير مخضرم آخر نحاول جاهدين تحليل الوضع واقتراح أفضل السبل للتعامل مع ردود الفعل الدولية، انهالت الاتصالات الهاتفية »التلقائية« على البرنامج من مواطنين شرفاء، أحدهم يحمل لقب خبير أمني، حيث قذفونا باتهامات مخيفة منها العمالة والتمويل الأجنبى والأجندات، بينما تفضل الخبير الأمنى بالإشارة بشكل تهديدى أنه يعرف معلومات عنى وعن زميلى السفير العزيز ، بينما تفضل سيادته بسرد تاريخ انتهاك حقوق الإنسان والتعذيب فى أمريكا منذ «الهنود الحمر» وحتى معتقل جوانتانامو.. ومن المثير للانتباه أن كل الاتصالات «التلقائية» لم تتضمن مواطناً شريفاً واحداً يبدى اقتناعه بما ذكرناه .. لا يمكن لأحد دون أدلة أن يتهم أى جهاز رسمى مصرى بتعذيب وقتل الشاب الإيطالي، لكننى لم أفهم اللغة المستخدمة للدفاع عن النفس بأسلوب السيد الخبير الأمنى المذكور، والذى نسى أن يعاير ايطاليا بأنها لا تعرف حتى الآن من الذى قتل مارك أنطونيو؟ لقد فوجئ العالم ببيان يصدر فى ساعة متأخرة يتحدث عن اكتشاف المجرمين الذى قتلوا الشاب الإيطالي، وكانت التفاصيل مثيرة، فقد تم قتل المجرمين جميعاً فى سيارة ميكروباس، لكن وجدت بعض متعلقات الضحية »الطلياني« لدى شقيقة أحد المجرمين.. ولم يمر وقت طويل، حتى بدأت المصادر الرسمية فى وزارة الداخلية تتراجع عن اتهام هؤلاء القتلى.. وإن لم تقدم حتى الآن تفسيراً لوجود تلك المتعلقات ومنها حقيبة الضحية وهواتفه ونقود وقطعة من الحشيش .. لقد وجدت نفسى فى نهاية البرنامج التليفزيونى المشار إليه أعلاه، وفى مواجهة الاتهامات التى كالها «المواطنون الشرفاء» الذين اتصلوا «بشكل تلقائي«، لم أجد سوى الاستعانة بصناعة السينما، حيث ذكرت أن ما تناوله الحديث والاتصالات يكشف عن ثلاثة احتمالات: الأول يحمل اسم فيلم «خلى بالك من زوزو»، وخاصة أغنية «الجو بديع والدنيا ربيع ، قفلى على كل المواضيع »، وهو ما يعنى «حالة إنكار كاملة».. أو الاحتمال الثانى الذى يمكن أن يحمل اسم فيلم «الزوجة الثانية»: «الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا.. وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، وهو ما يعنى «السعى لتستيف الأوراق بشكل أو بآخر». أما الاحتمال الثالث فهو يحمل بعض السمات من دولة أسيوية شهيرة منغلقة عن العالم، أذاع تليفزيونها الحكومى مراسم فوز فريقها لكرة القدم بكأس العالم.. وهذا ما لم يحدث فى الواقع .. لكن إعلام هذه الدولة أحتفل بهذا الفوز .. واحتفل الشعب معه.. وأظن أن هذا الاحتمال الأخير قد يؤدى إلى حالة «سيما أونطة» أو الحقد على «الببغاء».. ولله الأمر من قبل ومن بعد . مساعد وزير الخارجية الأسبق لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق