تنتهى الدولة الإسلامية فى العراق والشام "داعش" بمعركتين وشيكتين فى الموصل العراقية والرقة السورية، بعد أن حسم الجيش السورى معركة مدينة تدمر ذات الأهمية الاستراتيجية، ليس لرمزيتها التاريخية فقط، وانما لكونها مركز البادية السورية، أهم معاقل داعش. وبينما يتقدم الجيش العراقى بثبات فى محافظة نينوى غرب العراق لإكمال حصار الموصل، فإن الجيش السورى يتقدم شرقا إلى دير الزور، لقطع إمدادات داعش فى الرقة، والقضاء على أهم تجمعاته، ليلتقى الجيشان على الحدود، ليعلنا إنهاء مخطط إنشاء دولة داعشية، تفصل البلدين، وتصل بين تركيا والسعودية. إن القضاء على دولة داعش لا تعنى بالطبع القضاء التام على التنظيم، وإنما إنهاء تجسده المادي، وهو ما سيؤثر على معنويات التنظيم، ويقلص من قدرته على التجنيد لفكرة إنشاء دولة الخلافة الإسلامية. معركة الموصل حاولت الولاياتالمتحدة مرارا تأخير تقدم الجيش العراقى إلى الموصل، وماطلت فى تسليمه الأسلحة التى تعاقد عليها، لكنها عطلت التدريب والتسليح، ما اضطر العراق إلى التوجه ناحية روسيا، التى زودت الجيش العراقى بعدد من طائرات الميج والسوخوي، ودبابات ومدفعية، لكن الضغوط الأمريكية أبطأت التقارب العراقى الروسي، لكنها اضطرت إلى تزويد الجيش العراقى بعدد محدود من طائرات إف 16 ومروحيات الأباتشي. ومعاناة الجيش العراقى لم تقتصر على عرقلة التدريب والتسليح فقط، بل من إرث التقسيم الطائفى لقياداته، نتيجة نظام المحاصصة الطائفية الذى رسخته فترة الاحتلال الأمريكى بذريعة التوازن بين المكونات العراقية، وهو ثغرة خطيرة نفذ منها الفساد، وأربكت العقيدة القتالية، بين الانتماء الوطنى والطائفي، وهو ما يحاول معظم قادة العراق التغلب عليه.وفى الوقت الذى تشترط فيه أمريكا مشاركة البشمركة الكردية والعشائر السنية، فإنها ترفض بشدة مشاركة قوات الحشد الشعبى ذات الأغلبية الشيعية، والتى لعبت دورا محوريا فى دعم الجيش العراقى وتحقيق انتصارات حاسمة، وتروج لإمكانية حدوث فتنة طائفية فى حال مشاركة الحشد الشعبى فى تحرير الموصل، لكن الحشد يصر على المشاركة، وتم التوصل إلى اتفاق بأن يلعب دورا فى حصار وتطهير المواقع حول الموصل دون دخول المدينة. تقسيم العراق أصبح شديد الصعوبة لعدة اعتبارات أهمها فشل أمريكا فى تشكيل قوات مسلحة شرعية للسنة تحت مسمى االحرس الوطني«، والرفض القاطع لقادة العراق للتدخل البرى من أى دولة، بما فيها القوات الأمريكية، والتداخل بين السكان السنة والشيعة فى المحافظات الوسطي.أما أكراد العراق الذين يعدون أقرب مجموعة عرقية المؤهلة للانفصائل فتعترضهم مشاكل كبيرة، أهمها الصعوبات الاقتصادية، ثم الانقسام بين الأكراد، ورفض كل دول الجوار لفكرة الانفصال، ويمكن أن يتعرضوا لضربات عسكرية، ليس من الجيش العراقى والحشد الشعبى فقط، بل من دول الجوار أيضا التى ستحاصرهم اقتصاديا، ولا يكفى الدعم الأمريكى وحده لتمكين أكراد العراق من الانفصال. ويواجه أكراد سوريا مشاكل مماثلة، ويمكن أن يلتهمهم الجيش التركى فور إعلان نية الانفصال، ولذلك فإن العلم السورى هو ما سيحميهم من الأنياب التركية. معركة الرقة تفضل أمريكا أن يتولى أكراد سوريا تحرير الرقة من "داعش"، لأنها تأمل فى أن تحصل على نيشان تحرير عاصمة االدولة الإسلامية فى العراق والشام«، وهو ما سيكون الدليل الأكثر أهمية على مشاركتها فى القضاء على "داعش"، لتغسل عار مساعدتها فى دعم داعش عندما كانت واثقة من قدرة حلفائها على إنجاز مهمة تقسيم العراقوسوريا، لكن القوات الكردية على الأرض يبدو أنها أضعف من أن تنجز هذه المهمة بمفردها، على العكس من الجيش السورى وحلفائه الذين يزحفون بسرعة على شرق سوريا، وينتظرون توافقا روسيا أمريكيا على إنجاز المهمة، التى ستحرم أمريكا من التباهى بدورها فى دخول عاصمة داعش، لكن الرقة ليست بالأهمية الاستراتيجية التى تحظى بها دير الزور، والتى تتيح للجيش السورى السيطرة على مجمل مساحة البادية التى تشكل ثلث الأراضى السورية، ولا يعد أمامها إلا الالتفاف تجاه إدلب الواقعة بين حلب والحدود التركية، لتعلن الانتصار الكامل على الإرهاب، ولن يتبقى ما تساوم عليه المعارضة السورية إلا جيوب صغيرة متناثرة، يسهل على الجيش السورى القضاء عليها بعد هزيمة داعش والنصرة، ولكن سيتم تركها لتكون الأوراق الوحيدة فى مفاوضات جنيف، لتجنى بها القليل من المكاسب.الولاياتالمتحدة كانت الأكثر استيعابا للمتغيرات على ساحتى سورياوالعراق، ولم تتشبث بالمخطط الذى تأكدت من أنه لن يجر سوى المزيد من الفشل، ولهذا رأت التفاهم مع روسيا.تسعى أمريكا إلى إقناع حلفائها بالمضى فى المفاوضات، وفتح ملفات جميع المناطق المتفجرة، بما فيها اليمن وليبيا، وأن تلملم خسائها. القضاء على دولة "داعش" هو حدث تاريخي، يطوى صفحات حالكة السواد لأخطر مخطط كاد يدمر المنطقة، ويضعها بأيدى جماعات همجية، وإن كان الزلزال قد ترك الكثير من الخسائر، وتسبب فى آلام لمئات الآلاف من الضحايا، إلى جانب الملايين الذين نزحوا أو تهدمت منازلهم أو خسروا أبناءهم وأقاربهم، ومع ذلك يمكن القول إن المنطقة تجنب ما هو أسوأ بكثير لو نجح المخطط، ولولا تلك التضحيات الجسيمة لكل من حاربوا داعش وإلحاق الهزيمة بأكثر الغزاة وحشية فى التاريخ. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد