فى حكم من الأحكام التاريخية سيظل شمعة نور لسنوات طويلة فى تاريخ القضاء المصرى دالا على نصرته للأم المصرية فى كفاحها من أجل الحصول على حرية أطفالها فى كنفها ضد تعنت الرجل ويرسم للجهات الإدارية حدودا للتعامل مع رغبة كل طرف من العائلة بصدد النظام المدرسى للأطفال. وفى مثل هذه القضية الشائكة أرست محكمة القضاء الإدارى بالأسكندرية الدائرة الأولى بالبحيرة _برئاسة المستشار د. محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة وعضوية المستشارين محمد حراز ووائل المغاورى نائبى رئيس مجلس الدولة_ عدة مبادئ قانونية وفلسفية تحدد مفاهيم حديثة للولاية التعليمية للحاضنة وهى الأم ومستقاة من أحكام الشريعة التى لم تبلغها علوا أكثر الأمم تمدينا وتحضرا.. أتى الحكم يوم 21 مارس 2016 وكأنها كانت هدية لكل أم فى عيدها اكتوت بنار قسوة الأب وتعنته إزاء أبنائها. نريد حلا ونروى القصة من البداية والتى تجسد قمة الصراع والتناحر بين الآباء والأمهات على اختيار النظام المدرسى للأبناء بعد الطلاق، كان بطلها الأب والأم والجدة للأب والجدة للأم وحصول كل منهم على أحكام متلاحقة.. ثمانية أحكام من محكمة الأسرة عن الحضانة والولاية التعليمية وكان ضحيتها طفلين محمد بالمرحلة الابتدائية وإسراء بالمرحلة الإعدادية.. وأصرت المحكمة ببصيرة على ضرورة سماع الطفلين.. وفى موقف درامى بكى الطفلان أمام المحكمة طالبين من عدالتها وضع حد لهذا الصراع الذى كان من نتيجته عدم تمكنهما من دخول امتحانات نصف العام السابقة.. وفى كلمة بسيطة لخصت كل معانى المعاناة التى عاشاها قالا للمحكمة "نريد حلا"! واشتكى كلاهما من قسوة الأب عليهما، وبكى كلاهما طالبين العيش مع أمهما.. فماذا قالت المحكمة فى هذه القضية التى تعد نموذجا لصراع العائلات على الأبناء فى ظل إصرار الأب والأم والجدات على اختيار نظام مدرسى يغاير الآخر! أكدت المحكمة مجموعة من المفاهيم الجديدة لصالح الأم المصرية الحاضنة أهمها: أن النظام المدرسى من الحقوق اللصيقة بالطفل وحاضنته، وليس وفق هوى الأب، وأن انتزاع حق الرعاية التعليمية للصغار من الأم التى تعايشه دقائق الحياة مظلمة للصغير وإخلالا بصفائه النفسى وأمنه واطمئنانه واستقراره.. أما ما أشارت اليه المحكمة أن أى قاعدة قانونية ولو كان العمل قد استقر عليها أمدا لا تحمل فى ذاتها ما يعصمها من العدول عنها وإبدالها بقاعدة جديدة لا تصادم حكما شرعيا وتكون فى مضمونها أرفق بالعباد وأكفل لمصالحهم الحقيقية. ومن هنا جاء الحكم بالولاية التعليمية للأم، والزمت المحكمة الأب والجدة للأب والجدة للأم المصروفات . وبعد النطق بالحكم ارتمى الطفلان إسراء ومحمد فى أحضان الأم زغلولة زكى ابو شنب فى موقف مؤثر واسدلت المحكمة الستار عن أغرب دعوى جسدت بشكل درامى صراع العائلات فى اختيار النظام المدرسى للأطفال. وقد لا يهمنا هنا منطوق الحكم بقدر ما يهمنا الحيثيات الواردة بهذا الحكم التاريخى حيث قالت المحكمة أن أسوأ ما يتعرض له الطفلفهو الخطر الذى يهدده والنابع من الأسرة ذاتها والتى من المفترض أن تقوم بحمايته، ومع حدوث اختلاف بين الزوجين يرغب كل من الزوجين فى تسلم ملفات الأطفال من مدراسهم لإلحاقهم بالمدرسة التى يرغب كل منهما فى الالتحاق بها ودون نظرعما ينجم عن هذا التناحر من تأثير سلبى على نفوس الأطفال. وأوضحت المحكمة أن الأم أحق بالحضانة ومستلزماتها بشئون التعليم ما لم يطعن فى عقلها أو أخلاقها وعفتها طعن مثبت. وأن الالتحاق بالمدارس من مستلزمات الحضانة اذ كيف تكون الولاية للأب على أطفال لا يعيشون معه وهم فى كنف أمهم ! وأشارت المحكمة أن ولاية الأم للأبناء لا تحد من ولاية الأب الشرعية عليهما، فإن عليه مراعاة أحوالهما وتدبير أمورهما، وولايته عليهما كاملة، وإنما يد الحاضنة للحفظ والتربية وعليها القيام بالضروريات التى لا تحتمل التأخير، وذكرت المحكمة أنه يتعين على الآباء والأمهات ألا يتخذوا من الأطفال وسيلة ليكيد بعضهم لبعض فتتحول حياة الأطفال الى جحيم فقد جاء بالآثارالصحيحة بأن النساء أحق بالحضانة عندما جاءت امرأة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله، هذا ابنى، كان بطنى له وعاء، و حجرى له حواء، و ثدى له سقاء، و إن أباه طلقنى، وأراد أن ينزعه منى، فقال رسول الله "أنت أحق به ما لم تنكحى"، ما ذنب الأبناء تكمن المشكلة أيضا فى أن بعض الآباء عقب الطلاق يختارون نظاما تعليميا أقل جودة للصغار نكاية فى الأم او لإشعارها بالذل والهوان وهذا ما حدث مع هذين الطفلين وهنا أشارت المحكمة الى أن قيام الأب بتغيير النظام المدرسى للأطفال بعد الطلاق القصد منه الإنتقام من زوجته التى أنفت العيش معه وليس مصلحة الطفل. لذا فإن مصلحة الصغير هى المعيار الذى يجب مراعاته فى جميع الإجراءات والقرارات التى تخص الصغار ومن هنا فإن الحكم يساهم فى علاج المشكلات التى تهدد المطلقات وأطفالهن نظير تعسف بعض الأزواج وتحكمهم غير المبرر بمصير الأبناء التعليمى والعمل على سحب ملفاتهم من مدارسهم التى استقروا بها لالحاقهم بمدارس أخرى فى أماكن بعيدة وأقل فى المستوى التعليمى مما يؤثر على مستقبلهم واستقرارهم النفسى والاجتماعى. واختتمت المحكمة حكمها التاريخى بتذكير المجتمع أن شطط الآباء وقسوتهم على الأمهات واشتعال تدخل عائلتهما يصيب الأطفال بأمراض نفسية وفقدان الثقة والتخلف الدراسى، وناشدت المحكمة الرجال بأن العقيدة الإسلامية سلوك سام فلا تستبدوا بالزوجات حتى لا يستجير الأطفال من بأسكم ونار الحيرة تعصف بنفوسهم ولن يكون غير قلب الأم ركنا للاحتماء والاحتواء.