أيام فى الهند كانت صعبة، إلا أن المعاناة الشخصية، والمرض جراء التلوث الرهيب فى نيودلهى لا يمنع التوقف عند «التجربة الهندية»، وأحسب أن الطريق لا يزال طويلا لتصل الهند إلى وضعية «القوة العظمي»، وذلك لأنها وإن كانت «ديمقراطية عظيمة» لأنها الأكبر ، إلا أنها فى المقابل لم تزل غالبية شبه القارة الهندية «دولة نامية»، وهذا ينطبق على غالبية السكان. وفى المقابل، فإن الكاتب الهندى «كى إن نينان» فى تقديمه لكتاب «أشوك مالك» الذى حمل عنوان «الهند.. روح المبادرة» فإنه يذكرنا بالمرحلة الهندية. ويقول نينان «سيتذكر من عاشوا أزمنة ماضية تعود إلى الثمانينيات من القرن العشرين أن الهند كانت دائما أقل من المستوى عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد. كان البلد يلقى تقديرا لنجاح ديمقراطيتها رغم اتساعها، ورغم الفقر المدقع، لكن بدا أن ديمقراطية ناجحة وديمقراطية حرة الحركة لا تسيران معا على ما يرام. كثير من قصص النجاح أديرت من قبل رجال أقوياء ضمن دول استبدادية، مثل سنغافورة، وكوريا الجنوبية، وإندونيسيا وتايوان، أو غير ديمقراطية مثل الصين». والذى تغير مثلما هو معروف «إصلاح شامل» لما كان حينها اكتفاء ذاتيا وتقوقعا داخليا للاقتصاد مقيدا بما هو عكس الإنتاجية. وأحسب أن «روح الإصرار» التى تلمسها لدى الشعب الهندى هى «السر»، كما أن الإصلاحات الاقتصادية كانت لها مفعول السحر، ولكن الرهان على «التكنولوجيا» خاصة «تكنولوجيا المعلومات» والاهتمام بالقطاع الزراعى «أمن غذاء الناس»، وأخيرا وليس آخرا «استيعاب القوة البشرية المهاجرة» لتكون «رصيدا ضخما» فى قصة النجاح، وهذا كله بالإضافة إلى عوامل أخرى «جرى خلطه» وتقديمه فى إطار أكبر حملة لتسويق «التجربة الهندية» بوصفها «قصة نجاح». وهذا فيما بات يعرف بعلم «تسويق الدول» كعلامة تجارية!. إذن علينا أن نتأمل ونسعى بسرعة. الزائر للهند يلحظ حركة العمران، والتغير الملحوظ فى موديلات السيارات بالرغم من أن نيودلهى وفقا لآخر تقرير لمنظمة الصحة العالمية أكثر عواصم العالم تلوثا، إلا أن نيودلهى وحيدر أباد تبوحان بشواهد التغير، ففى العام الماضى نما الاقتصاد الهندى ب 7.2%، وذلك أكثر من أى دولة كبرى أخري. ففى المقابل فإن روسيا والبرازيل انكمش اقتصادهما ب 3%، بل وحتى الصين التى تتصدر سباق النمو تراجعت فى معدل النمو خلف الهند حيث نما الاقتصاد ب 6.9%. وأحسب أن الأرقام تفصح عن نفسها، فقد تمكنت الهند من دخول نادى أكبر 10 اقتصادات فى العالم بحلول 2010 2011، وذلك عندما بلغ إجمالى الناتج الإجمالى 1.65 تريليون دولار. ويكفى هنا أن نشير إلى أن شركة «أنفوسيز» للسوفت وير هى تجربة نجاح هائلة، فقد تمكنت من القفز من 100 مليون دولار عام 1990 إلى 9.2 مليار دولار. وأحسب أن ذلك لم يأت من فراغ، فمثلما قال مدير عام الشركة خلال اللقاء معه فى حيدر أباد، فإن الشركة تخصص 500 مليون دولار لصندوق الإبداع. كما أن 1.3% من العائد يخصص للأبحاث والتطوير، إلا أن الجملة التى استوقفتنى فى الحوار معه «نحن أكثر القطاعات التى تحظى بإعجاب المجتمع». ولم لا؟ فالجميع الذى يشاهد الأفلام الهندية يلحظ أن مجال تعهيد الأعمال ومراكز الاتصال وهو ما يعرف بتقديم الخدمة لطرف ثالث بات أمرا شائعا، وتوفر الوظائف، والمال للدولة الهندية. وهنا فإن الهند تحقق دخلا هائلا من تعهيد الأعمال ومراكز الاتصالات، كما أن الهند تعتبر ثانى أكبر مصدر للبرمجيات بعد الولاياتالمتحدة، ويتم فيها تطوير نحو 40% من البرمجيات المستخدمة فى الهواتف المحمولة. وهنا فإن هذه التكنولوجيا التى توفر 7.5% من إجمالى الناتج القومى للهند، هى أبرز ملامح التجربة الهندية. ولم يقتصر الأمر على الداخل بل باتت «التكنولوجيا الهندية» أحد أهم عوامل الجذب الهندية، وخلال الزيارة وحضورى المؤتمر الحادى عشر للشراكة الهندية الإفريقية الذى ينظمه بنك التصدير والاستيراد وغرفة التجارة والصناعة الهندية فإن وزير الدولة الهندى للعلاقات الخارجية فى كى سينج أكد ضرورة التعاون الثنائى والشراكة من أجل التنمية المستدامة، وذلك فى مجالات التكنولوجيا النظيفة، وتكنولوجيا الطاقة الشمسية، والزراعة المقاومة للتقلبات الجوية. وإذا ما كانت الحوارات مع الوفود الإفريقية مؤشرا، فإن غالبية الذين تحاورت معهم كان إجماعهم على شيء واحد، ألا وهو «الهند تقدم تكنولوجيا رخيصة»، كما أنها تجربة جيدة لنا فى التنمية الزراعية والاكتفاء الذاتى (أى توفير الأمن الغذائي). وهنا يكفى القول أن الهند تمكنت من زيادة صادراتها إلى إفريقيا من 30 مليار دولار خلال 2008 إلى 72 مليار دولار فى عام 2015. وأحسب أن الصورة بملامح قريبة هو ما لمسته خلال زيارة مدرسة الهند للأعمال والتكلفة بها 50 ألف دولار للطالب ألا وهى التكنولوجيا والعلم، وشعارهم فى إيجاد مراكز التميز هو «ربط الصناعة والأكاديمية والتعليم المتقدم والأبحاث بهدف الوصول إلى مسافة أبعد». والمدهش أن هذه المدرسة التى أسهم فى قيامها الشركات الهندسة الكبرى يقول لنا الأساتذة الذين التقيناهم «إن الهند تحتاج إلى مزيد من القادة والمديرين الموهوبين»!. وهنا مرة أخرى يصطدم المرء بالجملة السحرية «إن العالم فى سباق شرس على الموهوبين والمبدعين»!، ولم تكتف الهند ب 1.3 مليار نسمة لديها، بل إن الحكومات المتعاقبة خاصة حكومة مودى المالية تبذل جهودا مضنية من أجل الوصول إلى «الجالية الهندية» المنتشرة فى جميع أنحاء العالم. وبالطبع ليس من أجل أن ينشدوا معا أغنية «بحبك يا بلادي»، بل من أجل أن يسهموا فى مشروعات، وأن ينقلوا خبرات وشبكة علاقات هائلة تربطهم بدوائر المال والأعمال فى العالم. ومن هنا فإن هؤلاء هم من أسهموا فى إنشاء وإيجاد بعض أهم مراكز البحث العلمى والتطوير فى العالم خارج الولاياتالمتحدة مثل مدينة بنجالور التى يطلق عليها «وادى السيلكون الهندي» ومدينة حيدر أباد. ولعل هذه الدروس والملاحظات لا تكتمل إلا برؤية نائب المدير العام لمعهد الدراسات الدفاعية والتحليلات العميد السابق روميل داهيا، وهذا المعهد هو أحد أهم مراكز الأبحاث الهندية، وذو الصلة الوثيقة بالحكومة الهندية والمؤسسات السيادية فى الدولة. والمدهش أن الرجل عاد بنا إلى الاحتلال البريطاني، فهو يقول إن الهند بعد 200 سنة من الاحتلال البريطانى كان متوسط دخل الفرد مثلما كان قبل الاحتلال. إذن الرجل يقول لنا إن الاحتلال نهب الهند، وأضاع 200 عام من تاريخها سدي، وأن الرحلة الهندية بدأت مع الاستقلال. وعندما تتأمل ملامح الرجل وطريقته فى الكلام فلا تستطيع إلا أن تستدعى «الهندى النموذج»، فهو أقرب فى ملامحه إلى غاندى أو ربما كان الرجل يحاول أن يستلهمه!. ولكن على أى حال فقد توقفت أمام عدة رؤى حاكمة لموقف الهند على المسرح الدولي، فهو يرى أن التسامح جزء من الثقافة الهندية، وأن بلاده مجتمع متعدد الأعراق والثقافات. والنقطة الثانية المهمة هى أن «الجغرافيا تفرض التعاون والنمو مع الجيران»، كما أن الهند تؤمن وتثق فى نظام الأممالمتحدة رغم فشلها فى بعض الأمور. وأكد الجنرال العسكرى السابق «لسنا عضوا فى أى تحالف عسكري، ولا يجب أن يدار العالم من خلال التحالفات العسكرية». ووفقا لرؤية المسئول الهندى فإن الحروب مكلفة بل «خيار سيئ»، والمطلوب الذى يعملون عليه هو «مزيد من الردع» لمنع الخصوم من العدوان، وتجنب الحروب بأى وسيلة ممكنة. ويبقى أن هذه سياحة سريعة، وخلاصة متعجلة لحوارات ومشاهدات على مدى 9 أيام فى الهند. وأحسب أن هناك قدرا لا بأس به مما يمكننا بعد العمل معا خاصة وقد علمت أن «الكيمياء الشخصية» ما بين الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى ورئيس وزراء الهند مودى كانت جيدة للغاية. كما أن الهند تضع آمالا كبيرة على علاقاتها مع مصر «بوابة العالم العربى وإفريقيا» و«جسر التواصل» مع أوروبا. ولا يسعنى إلا تأكيد على أنه علينا أن نبدأ بقوة رحلتنا على طريق النهوض، والتواصل مع العالم بقوة الاقتصاد والعلم، وأن نجتذب «طيورنا فى الخارج»، وأن نقدم قصة نجاح مصرية. لمزيد من مقالات محمد صابرين