هل طغت الرياضة على الثقافة والأدب والفن والسياسة ؟ هل هى حالة خاصة بمصر وبالدول العربية وحدها أم أن الإهتمام بالرياضة وبنجومها ظاهرة عالمية ؟!هل يكره المثقفون كرة القدم .. هل ينقسم البشر إلى إسبرطيين وهم أهل العضلات والقوة فى دولة الإغريق القديمة، وأثينيين وهم أهل العقل فى أثينا ؟ هل حقا أن العقل السليم فى الجسم السليم ؟! القضية قديمة ، وهى من قضايا ليس لها نهاية ولازمن . فأتذكر ماكتبه الأديب الكبير توفيق الحكيم فى «الأهرام» مطلع الثمانينيات عن البطولة التى أصبحت فى الأقدام، بعدما كانت فى الأقلام ، والكورة التى أصبحت فى الأجوال وليس فى الأعمال .. ومبدئيا لايوجد شىء إسمه العقل السليم فى الجسم السليم ، فكثير من العقول التى نهضت بالبشرية لم تمارس الرياضة ولم تهتم بمشاهدتها .. الزميل أشرف عبدالشافى يتحدث فى كتابه «المثقفون وكرة القدم» عن علاقة المثقف بتلك الرياضة . ومن المعروف أن توفيق الحكيم لم يعرف الرياضة بينما عرف كرة القدم وعشقها لاعبا ومتفرجا الأديب العالمى نجيب محفوظ ، كما كان الأديب الفرنسى ألبير كامو عاشقا للعبة ، وهو الذى قال : «كل ماعرفته عن الأخلاق تعلمته من كرة القدم» .. أما الروائى الأوروجوانى إدوارد جاليانو فكان حارسا للمرمى ، وفشل فى تجاربه ، وكتب واحدا من أشهر الكتب عن اللعبة بعنوان «كرة القدم بين الشمس والظل» .. وهو كتاب ممتع للغاية .. ويستعين أشرف عبد الشافى بقصص وروايات عن أدباء وأهل ثقافة وعلم، ومنهم الشاعر الفلسطينى محمود درويش الذى قال أن الكرة أشرف حرب . وهى بالفعل حرب مشروعة . فيما كتب عنها الشاعر العراقى معروف الرصافى قائلا : قصدوا الرياضة لاعبين وبينهم كرة تراض بلعبها الأجسام وقفوا لها متشمرين فألقيت فتداولتها منهم الأقدام يتراكضون وراءها فى ساحة للسوق معترك بها وصدام رفسا بأرجلهم تساق وضربها بالكف عند اللاعبين حرام وفى تاريخ البشرية علماء وفلاسفة وأدباء صنعوا التاريخ والمستقبل ، ونهضت الأمم بإختراعاتهم ، وبأفكارهم . بل إن أوروبا التى كانت تتحارب فى كل شبر من أرضها فيما بينها حتى القرن الثامن عشر ، بدأت نهضتها الكبرى بالتفكير . وعرف العالم فلاسفة عظماء مثل جان جاك روسو ، وأفلاطون وسقراط، و حصل جاليليو على التقدير الذى يستحقه فى التاريخ ، فهو جاليليو جاليلى العالِم الفلكى والفيلسوف والفيزيائى الإيطالى وهو الرجل الذى حطم العديد من المعتقدات غير الصحيحة فى زمنه ، ففى تلك الأيام كان كل فرد يعتقد أن الأرض مركز الكون، وأن الشمس وغيرها من الكواكب تدور حولها، وأن القمر مسطح الشكل. ولكن عندما نظر جاليليو من خلال عدسات منظاره لم يجد شيئا من هذا كله صحيحا، فقد رأى أن فى القمر مرتفعات، وأن الشمس تنتقل على محاورها، وأن كوكب المشترى له أقمار، يقال أن عددها 63 قمرا . ونيوتن هو من إكتشف قانون الجاذبية، وتلك الجاذبية تبدو أنها السر الأعظم فى الكون ، حيث تتحكم فى حركة ومسارات الكواكب والمجرات .. لكن كرة القدم لم تكن لعبة فى عصور هؤلاء العباقرة . . وإنما البحث والحلم والاكتشاف كانت من ألعاب عصورهم . كانت البشرية تحاول أن تفهم ، والتفكير العقلى ينمو ويصنع به الأوروبيون حضارتهم كما صنع العرب بالتفكير والعلوم والفلسفة حضارتهم .. ولكل مجاله ففى العالم مجلات وموسوعات مخصصة للعلوم .. فعلى سبيل المثال يمكن أن تنشر صحيفة خبرا يقول أن قرص الإسبرين هو أهم دواء عرفه البشر فى القرن العشرين ، وأن قيمة هذا القرص أنه يعالج أو يقاوم عشرات الامراض لكن نشر التركيبة الكيميائية لدواء الإسبرين مسألة صعبة ، بل مستحيلة فى جريدة عادية ، ومكان نشر التركيبة مجلة علمية أو طبية متخصصة ..ويمكن أن تشير صحيفة إلى نظرية النسبية لأينشتين ، لكن من المستحيل شرح النظرية للعامة فى نفس الصحيفة . وهذا هو الفارق بين الموضع الذى يجب أن تكون فيه تركيبة الإسبرين ، ونظرية النسبية، وتفاحة نيوتن ، ورأس جاليليو ، وبين الموضع الذى يجب أن تكون فيه قدم ميسى وأبوتريكة ورمضان صبحى وشيكابالا ! فى دول الغرب تتسع الساحة لكل شىء ولكل مجال . لكتب باولو كوليو ، ولرأس جاليليو وعقل إينشتين ، وصوت مطرب الاوبرا الراحل بافاروتى ، وتتسع الساحة أيضا لقدم كريستيانو رونالدو ، وقدم ميسى ، ويد مارادونا .. وفى الغرب اهتم الناس بالسفينة جاليليو التى أطلقت لاستكشاف أسرار كوكب المشترى الذى يبعد عن الأرض ملايين الأميال. واستغرق وصول "جاليليو" إلى الكوكب وحده خمسة أعوام.. ترى من يهتم بمثل هذا الخبر فى محيطنا ؟! والأمر نفسه فى مجال الرياضة .. ففى أمريكا مجلات تنس ومصارعة وألعاب قوى وملاكمة متخصصة ، وتطبع منها الاف النسخ ، وتربح دور النشر منها آلاف الدولارات ، بينما لو أصدرت دار نشر مصرية مطبوعة تعنى برياضة الجولف فى الوطن العربى أو فى مصر فلن يقرأها سوى ألف لاعب من ممارسى تلك الرياضة وسط 90 مليونا ، مع ملاحظة أن ملاعب الجولف انتشرت فى مصر لدرجة أن كل مجمع سكنى يبنى فى مدينة جديدة يعلن عن وجود ملاعب جولف لإغراء الزبائن ، كأن نصف المصريين تايجر وودز ! لا يمكن أن نطالب بالمساواة بين رأس أفلاطون وسقراط وأينشتن وتوفيق الحكيم وبين قدم كريستيانو رونالدو وقدم ميسى وقدم أبوتريكة و رمضان صبحى وقدم شيكابالا .. فلا تجوز المساواة أو طرح الأمر للمقارنة . فصحيح أن هناك مساحات للإهتمام بالثقافة والعلوم والأدب ، لكن الاهتمام أكبر بكرة القدم لشعبيتها ، لأنها أسهل فى فهمها ، وفى ممارستها، وفى مشاهدتها ، كما أن كرة القدم تعكس فطرة الصيد عند البشر، فالكرة عبارة عن طريدة . وكل طفل صبى تجده مطاردا لها ، وكل فتاة طفلة تراها غالبا تحتضن عروسة . ففى الغريزة جذور خروج الإنسان الأول للصيد ، وتربية المرأة للأبناء .. ولعل ذلك يوضح فارقا مهما بين الإهتمام بالغريزة الاهتمام بالمعرفة ؟! وكرة القدم تنثر البهجة والمتعة ، وتمارس فى الملاعب المفتوحة والمغلقة تحت ضوء الشمس وتحت ضوء القمر وقوانينها بسيطة غير معقدة. وهى لعبة ممكنة للجميع للأغنياء وللفقراء، للأطفال والرجال وللسيدات أيضا وممكنة لقصار القامة ولطوال القامة . فلكى تكون لاعبا بارعا فى كرة السلة أو الطائرة لابد أن تكون طويلا، ولكى تكون مصارعا فذا لابد أن يكون جسدك كتلة من العضلات ولكى تكون بطلا فى رفع الاثقال لابد أن تملك القوة . لقد زادت شعبية كرة القدم و أصبحت مبارياتها احتفالا كونيا يقام فوق مسرح من العشب الأخضر فى النصف الثانى من القرن العشرين بسبب التليفزيون والتغطية الإعلامية والمحيط المثير الذى يحيط باللعبة وإذا كان كثير من الخبراء يرون أن شعبية كرة القدم ترجع لأسباب تتعلق بالفطرة والغريزة ويبدو ذلك تفسيرا مريحا ، يوقف عناء البحث والفحص فأسباب شعبية اللعبة وأسباب الشغف بها أعمق وأوسع من الفطرة والغريزة فكرة القدم ببساطة صورة من صور الحرب المشروعة، وقد تكون الحرب غريزة بشرية ، وقد كانت الحرب رياضة قديمة عند البشرية وكرة القدم بتعبير أخر تعد صورة من صور الصراع الجماعى المتكرر. وعن هذا الصراع الجماعى يقول جورج زيفلير الصحفى الفرنسى والكاتب القديم فى الفيجارو : " منذ الأزل والمظهر الذى يحكم العلاقات الانسانية هو الكفاح فعندما تهاجم جماعة ما جماعة أخرى فإن رد المجموعة الأخرى هو حتما المواجهة ومنها يأتى التصادم والعنف " ! إن رأس افلاطون وتفاحة نيوتن ونظرية النسبية وقرص الإسبرين وأفكار الفلاسفة لا تلغى ولا تقارن ولا يجب أن تقارن بقدم كريستيانو رونالو وقدم ميسى وأبوتريكة ورمضان صبحى وشيكابالا .. لقد ماتت من أزمنة قضية الصراع بين العضل والعقل؟. لمزيد من مقالات حسن المستكاوى