هذا الذى يجرى بلا سابقة على طول التاريخ الإنسانى كما نعرف وعلى تنوع تجاربه كما وصلت إلينا، كأنه كابوس لا يريد أحد أن يلقاه يقظا أو حتى نائما، مصر تخوض حربا دخائلها مستعصية لأن مسرحها ساحات ظلال وأشباح عليها حركة لا يلحظها أحد وفوقها خطى لا تترك أثرا يدل عليه موقع قدم، نمط جديد من المجهول يهدد وجودنا، وأساليب حرب أمسكت بالكثير من المعانى وعبأتها بمقاصد لم تخطر على بال «النحاة». ما نواجهه أكبر وأعمق مما يتصور معظمنا من ظاهر التصرفات، ذلك أن الأخطار تجمعت فى اللحظة ذاتها دون توقف، يزيد من دقة الأمر وعسره، إن المحيط من حولنا يغلى، وواقع تتغير خرائطه، شكلا ووزنا، وموازين القوى تتبدل، وقوانين حركة تتغير، وخرائط ترسم من جديد وبالتوازى توجد خريطة عالمية للمستقبل . وسط هذا كله وإلى جواره نبدو نحن مشغولين بخصومات كان ممكنا حلها وكان واجبا تأجيلها، وبتسابق مهين لركوب الموج وصراع سياسى استهلاكى يمكن أن يمزق المجتمع ويترك على سطحه وفى أعماقه جروحا غائرة لا أظنها تلتئم قبل زمان طويل، مشغولين عن كل الأشياء وأولها المستقبل، كأننا نعيش خارج العالم فى فلك لم يكتشف بعد. والسؤال الجذرى هو: هل نحن مستعدون لإنقاذ الوطن قبل أن يتركنا التقدم وراءه بقايا من قرون خلت، نوغل فى السراب لا نفهم حقيقة موقعنا على طريق التطور كما التائهين على طرق تبدو عند نهاياتها وكأنها وصلت إلى تيه لا يظهر عليه أفق؟ فى مقدمة الإجابة على هذا الاستفهام تبقى وحدتنا سليمة، شعبا واحدا فى رؤيته، توحده غاية قصوى واحدة، يتبعها صالح عام واحد. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتأسيس لمدنية الدولة ومدنية المجتمع الذى نعمل على بنائه، إن شأن استمرار الحضارة فى أمة من الأمم أن تبقى وحدتها سليمة، كما أن العبرة فى قيام دولة موحدة دستوريا هى «وحدة الناس»، وإذا لم تكن هذه الوحدة موجودة «كحقيقة» فإن المطلوب اختراعها «كضرورة»، وأن نعمل جميعا بروح موحدة وبكل طاقاتنا وحشد طاقة الإرادة المتوافرة لدى الأمة من أجل مشروع تصوغه حقائق مستقبل، وأن ندرك مواقع القوة لدينا حتى لا نتحول إلى «ثروة سوقية» هائلة للقوى المنتجة فى العالم، وأن تتحول «فكرة بناء» مجتمع الانتماء إلى النبض فى الكائن البشرى إلى «وعى عام» وهدف قومى مؤسس على حساب القوة والإرادة، وأن يراعى فى بناء حجر يقوم فوق حجر، وطابق يرتفع على طابق تحته، أن تأتى عملية وضع النقط على الحروف فى آخر مرحلة، لكى نضع اللمسات النهائية للبناء، وأن نضع الإرادة الموحدة فى خدمة الممكن المتاح. ولمن يريد أن يدقق، أن شعبا يعيش أحوالا مرهقة، لكنه يواصل إصراره على الحياة بما يشبه المعجزات، عندما تتعذر الحلول أحيانا وتتعثر الطرق مرات، ومع ذلك فإن هذا الشعب داخل كل يوم فى صراع مع المستحيل، يشد المستحيل ليجعله ممكنا، ويشد الممكن ليجعله واقعا، معنى ذلك أن هناك أملا ومستقبلا. عندما تصبح هناك رؤية استراتيجية ترى أن المستقبل الذى نريد بناءه يوجد فى الحاضر، وأن المستقبل هو «حاصل جمع الممكنات» وأن الأهداف أخذت تتحقق على «مسطرة زمنية» كانت قد تحددت وأن هناك قدرة على الإنجاز ملموسة ومرئية، معنى ذلك أن الغد له مستقبل. لقد أثبتت الجماهير أنها الأسبق، وأنها الأصوب تقديرا وأدق حسا، ذلك حين قررت أن تتحمل المسئولية وتقف مع رجل اختار وطنه فى ظرف تشعبت مسالكه، وتقاطعت خطوطه، وزادت منحنياته ومهاويه، فإذا هو يدخل موقع القلب من التراب المصرى، رجل وجد «الممكن» حين لم يجد غيره إلا «المستحيل»، فإذا حديثه لشعبه ومضات برق له سرعة الضوء قبل سرعة الصوت. هو يتحرك فى كل اتجاه من أجل أن يعيد الاعتبار لقطرة الماء باعتبار أن النيل ليس مادة حياة فحسب، وإنما تاريخ سائل جار على الأرض أيضا. وهو فى كل مرة يخرج إنما ليبتكر فضاء جديدا لإنسان جديد، ويضع مصر على مكانها الطبيعى وسط أمته وفى العالم والعصر، متسقة مع نفسها متسقة مع عالمها معبرة عن «هوية» يقوم عليها «ولاء» ومعبرة عن «مصالح» يترتب عليها «التزامات»،. والسؤال الأساسى هو: على من تقع مسئولية الوطن؟ المسئولية الحقيقية هى مسئولية الشعب كله، أما أن يخوض «رجل واحد» معركتنا جميعا فذلك قصور فى رؤية الحقيقة لا يغتفر، وهو يعكس عجزا عن رؤية وفهم ما يجرى، ثم إنه ليس من المنطق والأخلاق، إن مسئولية هذا الوطن تتعدى الأيام والرجال، وإن رجلا واحدا لا يستطيع بمفرده أن ينقل شعبا أو أمة من عصر إلى عصر بعده، وأن يخلق الموارد البشرية والطبيعية من الهواء، أو يعطى السيادة لقيم الحق والعدل السياسى والاجتماعى، كل ذلك فى عدد من السنين هى بحساب التاريخ «ومضة برق». إن الأمة وهى تواجه مصيرها لا تستطيع أن تعطل بعض طاقاتها مهما كان السبب والسماح بذلك أو القول به جريمة تاريخية لا يمكن اغتفارها. مصدر الزمن يكمن فى المستقبل، والشباب هو الذى يبقى المستقبل حيا وإلا فإن المستقبل يموت، الشباب هو مستودع الحيوية الاجتماعية، ومخزن طاقتها القادر باستمرار على دفع موجات التقدم، أكتب وملء خواطرى وأمام عينى شباب تلمع فى عينيه ومضة خاطفة لها عمق لا يبين له قاع، الثورة راسخة فى صدره وفى وجدان الملايين، شباب مأخوذ بالمستقبل وتلك هى قوته التى لا تغلب. غير أن «بعض» هذا الشباب الثائر دخل عليه شىء ليس خافيا أفقده التوازن وكاد يتلف نسيجه الوطنى فراح يتأرجح وراءه الفكر مع الحيرة والشك، وقد ظن بعضهم أنهم الأوصياء على الثورة يتحدثون بوصفهم حكماء الثورة ومؤرخيها، مع أن أحدا لم ينكر دورهم الذى يستحق التقدير. إن اختزال شباب مصر «جميعا» من الحدود إلى الحدود فى عدد «محدود» من شباب ثائر قصور فى رؤية الواقع وغياب للحقيقة لأن الشعب المصرى هو من قام بالثورة وهو المالك الشرعى لها، وهو سند ملكيتها وأساس شرعيتها، وكان فى طليعته بعض شباب من أنبل أبناء الوطن. وكان الاستفهام الذى لا يجعلنا قادرين على النوم بلا قلق هو: ما دواء الثورة إذا تحولت هى نفسها إلى داء؟ ليس هو مما يليق بثورة بعدها لم يعد العالم كما كان، بل إن ركنا من أركان الكون تبدل، ثورة فتحت آفاقا للتفكير والتعبير والتنوير والتغيير تتجه إلى أن تغير معناها، وأن يتناحر الذين تقدموها مع بعضهم، ها هى تسير ها هى لا تصل ولا الطريق تنتهى. كان فوق الاحتمال أن نجد ثمرة تقاتل جذرها وأن القتال مازال دائرا حتى لا تتصل الجذور بالفروع على الأرض التى تؤاخى بين الجذر والعشب، فإذا نحن أمام شجر يكبر ولا يعلو، وإذا نحن نزرع فوق صخر. حقا لا ثورة فى المطلق الثورة هى مستوى الثائرين، الثورة لها أخلاق وقيم ولها أبعاد إنسانية، وهى دائما يجب أن تكون أفضل من الأشياء التى تثور عليها، والخطر أن يفاجأ الناس بأن الثورة كانت أكثر سوءا مما ثارت عليه رغم أن ما ثارت عليه يجب أن يثار عليه. والسؤال الجذرى هو: هل نحن قادرون على انتزاع المستقبل من وحشة الحاضر الراهن قبل أن تصبح هذه الفترة زمنا خاليا من التاريخ يمكن شطبها وإزالتها من التقويم؟ فى مقدمة الإجابة على هذا الاستفهام، الوعى بأهمية المشكلات والتحديات، والوعى بأهمية الحل، والوعى بأهمية الأهداف والطموحات والحفاظ على المعنويات والأخلاقيات، ومادمنا موجودين حاضرين بهذا الوعى فلن يستطيع أحد أن يقف أمام هذا الطوفان الهادر حتى يحقق أحلامه. إن على شباب مصر الثائر المثقف أن يكثف حدة الوعى لأن الوعى يعطينا صمودا، وأن يتنبه إلى أن أحدا لا يقدر أن يصهرنا إلا بقدر ما نحن مستعدون لأن نذوب، وأن هناك من يريد إقعاد همة الشعب المصرى ونزع مناعته وضرب إرادته وتجريده من أهم سلاح لديه وهو معنوياته وإحساسه بأنه قادر، ليظل الارتباك ظاهرا والإشارات متناقضة والاتصالات متقطعة ومتعثرة، وهناك من يريد أن ينزع من مصر تجسيدها لتيار القومية وهو مصدر قوتها وقيمتها وأن تظل الفكرة والتيار والحركة التاريخية التى تجسدت فيها فى حالة غياب، وهناك من لا يريد أن يترك مصر إلا إذا تأكد من عجزها وإلا إذا كانت تحت قدميه جريحا تنزف دما قرب الموت. وهناك من لا يريد فى هذا الموقع من العالم قوة قادرة على التأثير والإشعاع، وهذا أعقد ظروف مصر منذ الأزل وإلى الأبد. إن على شباب مصر الوعى بما يجرى حولنا حتى لا تعصف بنا رياح عاتية لم نستعد لها، وأن نحسن قراءة متغيرات العالم بوعى ونستخلص لأنفسنا منها ما نشاء. إن على شباب تجذر عميقا فى الأرض الوعى بأن له مكانا فى الوطن وأن له مستقبلا فى ظل عقد اجتماعى جديد، وأن أحدا ليس بمقدوره أن يكون انتقائيا أمام القانون، وأن هناك خطوات متقدمة تحققت لبناء بيئة سياسية قادرة على إيجاد قيادات المستقبل، والدفع بالشباب فى مواقع المسئولية وإلى حيث يتاح له أن يعرف الحقيقة كاملة وأن يجرى تقديراته بالفهم على أساسها، وهو ما لا تخطئه عين الملاحظة. إن أعظم ما تحظى به أمة أن يكون لها مثل هذا الشباب صوتا ملهما، لقد أثبتت التجربة أن مصر تيقظ لديها شباب فى التجربة التاريخية وفى العمر وفى الإمكانات المتاحة قادر على تحقيق مشروعه، وهو لن يسمح بأن يفلت زمام المستقبل من يده، وعلينا أن نتعلم لغته لكى نستطيع أن نتكلم معه، ثم إن علينا أن نتعلم تاريخه إذا كنا نريد أن نفهمه، وهو إذ يتكلم فبصوت مشرب بالعزم وملامح فيها شىء متألق كالمجد، فالشباب طاقة فعل إذا أحس بالإقصاء فهو على استعداد للانفعال، والمسافة بين الفعل والانفعال لا يمكن أن تضيق إلا بواسطة المشاركة والحوار، فالحوار محرك الثقافة ومدار الحضارة، وهو أداة التنوير الوحيدة فى محاولة الإنسانية الأبدية والأزلية طلبا للمعرفة وبحثا عن الحقيقة. ونعتقد أن مؤتمرا موسعا يتم إعداده إعدادا جيدا يحضره الطلاب والشباب وبعض قادة الفكر والرأى والإصلاحيين وأساتذة علوم المستقبل فى الجامعات ومختلف فروع المعارف الإنسانية لمناقشة قضية هذا الجيل من الشباب، يعد فرصة نادرة لفهم أوسع وأعمق لقضية من أهم قضايا نضالنا فى هذا العصر الحافل بالمتغيرات. بهذا الفهم نستطيع أن نقيم جسورا على المسافة بين الأجيال. الحوار بين الأجيال بدلا من القطيعة بين الأجيال، على أن يكون حوارا قائما على عقلانية التفكير ومعه جسارة المعرفة، وحق الاختيار ومعه حكمة الإرادة، بحيث يعد علامة بارزة فى تاريخ الوطنية المصرية، وإلا ضاع المصير وضاع التاريخ أيضا. كان خطرا أن أجيالا سابقة تنسى أن الشباب بطبيعة تكوينه يتطلع إلى المستقبل، وهذا يعنى أنه فى حالة حركة وفى حالة تطور بل فى حالة تدفق، وأن سرعة التحرك عنصر إيجابى فى طبيعة الشباب، وهى عادة يلازمها الشعور بنفاد الصبر. إن الشباب طاقة فعل، وإقصاء هذه الطاقة جريمة تاريخية لا يمكن اغتفارها، ولا يحق «لجيل سبق» أن يقرر وحده قضايا المصير مهما أخلص وتجرد، بمقدار ما أنه لا يمكن «لجيل لاحق» أن يتناسى التجربة وإلا فهو يقفز من فراغ إلى فراغ بعده. علينا ألا نترك الشباب واقفا عند نقطة انحناء الوقت ينتظر نهارا تأخر، وليلا يتعثر فى الصمود، لا تجعلوا كل شىء عظيم يفر من أيدينا، لا تجعلوا الطائر المحلق تتبعثر أجنحته كل منها مستسلمة لريح. علينا أن نتذكر أن الحقيقة لا تأتينا من الوراء، بل تأتى من التجربة، وهى أمامنا وليست وراءنا. لمزيد من مقالات د . محسن عبد الخالق