نفرح كثيراً حينما نترجم كتباً من اللغات الأخرى إلى لغتنا الأم .. ونفرح أكثر حينما تُترجم أعمالنا وكتبنا من لغتنا إلى لغات أخرى.. نفرح فى الحالة الأولى لأننا سوف يكون بمقدرونا الاطلاع على ثقافة الآخرين وسوف تزيد مقدرتنا على فهم ما يجرى حولنا من أمور، أما فى الحالة الثانية فإننا نفرح لمجرد الشعور بأن الآخرين قد وجدوا لدينا ما يفيدهم ويمتعهم.. ولهذا تهتم الدول بالترجمة. كنت فى موسكو الأسبوع الماضى لألتقى بالناشرين والمترجمين والمستشرقين لبحث سبل للتعاون فى مجال الترجمة. قابلت مدير معهد الترجمة وعرض علينا قائمة من مائة كتاب، أغلبها روايات كتبها أدباء معاصرون، وقال نحن نقوم بتمويل ترجمة هذه الأعمال إلى جميع لغات العالم، وقد وجدنا ناشرين متحمسين فى أمريكا والصين واليابان وغيرها من بلاد العالم. فسألته: لماذا هذه المجموعة تحديداً؟ فقال: لإزالة حكم خاطئ شائع يرى أن روسيا بعد جيل أدبائها العظام مثل تولستوى وديستوفسكى وجوركى وتشيخوف قد أجدبت، ولم تعد تنتج أدباً رفيع المستوى، ونحن نريد أن نثبت لهم أن روسيا مازالت ولادة. وحينما قابلت مسئولاً بمعهد الاستشراق، كان معه قائمة أخرى يعرضها ويعرض معها تمويلاً لترجمة الأعمال الموجودة بها.. الغريب أن هذه القائمة كانت تضم أعمال الأدباء الكلاسيكيين العظام الذين ذكرنا أسماءهم آنفاً ومعهم أيضاً من نفس جيلهم جوجول وليرمونتوف وبولجاكوف، فقلت له: لقد قرأنا هذه الأعمال ونحن فى ريعان شبابنا مترجمة إلى العربية فلماذا تقومون الآن بتمويل ترجمتها مرة ثانية؟ فقال لي: إن الترجمات العربية كانت فى أغلبها تتم عبر لغات وسيطة، فقد تم ترجمة أعمال الكتاب الروس من الإنجليزية أو الفرنسية، ونحن نريد أن تتم ترجمتها من الروسية مباشرة. والسبب الثانى هو أن ما ترجم من أعمال هؤلاء الأدباء ووصل إلى يد القارىء العربى، لا يتعدى ربع إنتاجهم الأدبى. كنت أدرك أن الروس ينتظرون منى عرضاً مشابهاً .. فكنت أشير إلى أهمية ترجمة كتب مثل كتاب الفتنة الكبرى لطه حسين الذى يساعد فى فهم طبيعة الصراعات المحتدمة فى العالم الإسلامى بدلاً من الكتابات الإعلامية المغرضة التى توجهها مصالح الدول الكبرى، وأشرت كذلك إلى كتابات أخرى مثل فجر الإسلام لأحمد أمين، وهتاف الصامتين لسيد عويس، وقرية ظالمة لمحمد كامل حسين وغيرها..وكان الناطقون بالعربية منهم يدركون أهمية هذه الكتب ويوافقوننى على جدوى ترجمتها إلى الروسية لكنهم ينتظرون تمويلاً لتشجيع الناشرين. وهنا كنت أدرك أن يدى مغلولة. وأننى يمكننى بالكاد أن أسهم فى تمويل كتاب أو كتابين على الأكثر من ميزانية المركز، على عكس الروس الذين يخصصون من المنبع ميزانية موجهة لدعم نشر الأعمال الروسية بجميع لغات العالم. وروسيا ليست وحدها فى هذا الاهتمام، فلدى معهد جوته وهو المركز الثقافى الألمانى صندوقا لتمويل الترجمة من الألمانية إلى العربية، ولدى المعهد الفرنسى كذلك قائمة اسمها قائمة طه حسين مدرجاً بها عدد من الكتب المختارة التى يدفعون للناشرين تمويلاً لترجمتها. وقد جاء مسئولون من السفارة الأسبانية إلى المركز القومى للترجمة يقترحون دفع جائزة مالية لأفضل ترجمة يقوم بها شباب المترجمين عن الأسبانية، وكذلك اتصل بى سفير الأرجنتين ليعرض المساهمة المالية فى استكمال ترجمة الأعمال الكاملة لبورخيس عن الأسبانية، إلى جانب قائمة أخرى من الأعمال الفكرية والأدبية للكتاب المعاصرين فى الأرجنتين. هكذا نرى أن الدول تتجه إلى تخصيص جزء من ميزانيتها لتمويل الترجمة إلى اللغات الأخرى، أى لزيادة إشعاعها الثقافى - لا أحب تعبير القوى الناعمة - وتعظيم تقدير الآخرين لها. فى مصر يوجد تمويل للترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية من الحكومة عبر وزارة الثقافة وهى ميزانية المركز القومى للترجمة. ولكننى بحثت إمكانية تمويل للترجمات من العربية إلى اللغات الأخرى فلم أجد، لا لدى وزارة الخارجية ولا وزارة الثقافة ولا مجلس الوزراء. ورغم إقتناع الجميع بضرورة أن تترجم أعمال أدبائنا ومفكرينا إلى اللغات الأخرى، ووعينا بالفجوة الكبيرة بين ما نترجمه عن الآخرين وما يترجمه الآخرون عنا، لا نجد أى مبادرة تسعى إلى تحويل هذه الرغبة إلى أمر واقع. ولا يمكن الزعم هنا بأنه توجد أولويات أخرى، فلدى كل هذه الدول مشكلات وهموم كثيرة ولكنها تحرص على دعم نشر إنتاجها الفكرى إلى لغات أخرى وهو أمر بالغ الحيوية فى أيامنا هذه للأسباب الآتية: أولها أنه يصحح الصورة الخاطئة عن الذات التى قد يكون الإعلام المغرض قد قام بتشويهها، وثانيها أنه يزيد من التأثير الثقافى للأمم وتفهم الآخرين لها، وثالثاً أنه يشكل بنية فكرية لازمة لأى حوار حقيقى بين الحضارات. ولهذا علينا أن نهتم بدعم ترجمة إنتاجنا الفكرى إلى اللغات الأخرى عن طريق صندوق مخصص لذلك يمول سنوياً من رئاسة الوزراء، ونجعل ذلك بين أولوياتنا. لدى مفكرينا وأدبائنا أعمال عظيمة مهمة بالنسبة لنا وبالنسبة للآخرين، ولكن الآخرين لن يلتفتوا إليها إلا إذا وجدوا من يحفزهم إلى ذلك .. وهذا هو دورنا. لمزيد من مقالات د.انور مغيث