بعلم وبدون علم، ادلى كثيرون بدلوهم فى قضية توفيق عكاشة، التى أظنها أخذت حجمًا ومساحة ما كانت تستحقها من الرأى العام والبرلمان، الذى نعلق عليه آمالا عريضة لاصلاح بيئتنا وأحوالنا الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية. على كل، حدث ما حدث، وجرى تفريغ شحنات الشماتة، والتقريظ، والسخرية، والتعاطف، وتصدر المشهد بعض محتكرى ومدعى الوطنية الذين نصبوا من أنفسهم أوصياء وحكماء يتكلمون بلسان الجماهير الحاشدة، ويؤكدون كلما غدوا أو راحوا أنهم الساهرون الأوفياء على تحقيق رغبات وقرارات الشعب، الذى حاكم وأدان عكاشة بتهمة الخيانة، والتطبيع مع إسرائيل، وتكفلوا بتنفيذ الحكم غير القابل للاستئناف، لإراحة ضمائرهم، وانتشوا باسقاطهم عضويته من مجلس النواب. بعيدا عن التهويل والتهوين، والسير فى ركب هذا الفريق أو ذاك، فإن واقعة عكاشة دقت جرس تنبيه وانذار، للفت أنظارنا وعقولنا إلى مسألتين خطيرتين تاهتا وسط طوفان وضجيج الانفعالات، والتشنجات، والادعاءات الزائفة، والأغراض غير المنزهة عن الهوى والتخديم على مصالح ذاتية تتخفى فى زى وطني. المسألة الأولى أن الأصوات العالية الزاعقة أضحت تحاصرنا بشكل خانق، فهى الشائعة، والمتحكمة فى ردود أفعالنا على القضايا المثارة صغرت أم كبرت، والأكثر حضورًا وطغيانًا، خصوصا بين مَن ينتمون لطوائف النخبة من المثقفين والسياسيين والبرلمانيين، ومع شيوع هذه الظاهرة القبيحة المعوقة توارت فضيلة العقل والتدبر، التى استبدلناها بالاندفاع الاهوج والغوغائية، وكانت سببًا جوهريًا فى تراجع واضمحلال قيم ومفاهيم غالية مؤسسة لقواعد وركائز المجتمعات المتقدمة الحديثة، منها أن الدستور والقانون هما الحْكم العادل النافذ ما يقرره على الجميع دون تمييز، حتى لو جاء قراره على عكس ما تريده الأغلبية الكاسحة ليس شرطًا أن تكون هذه الأغلبية على صواب دائما التى تشوش وتضغط بصراخها وعويلها على صانع القرار، ومؤسسات الدولة، والبرلمان، فالمفترض أن تكون رؤية ونظرة نواب البرلمان وغيرهم شاملة وثاقبة عند تصديهم للشواغل والهموم العامة وتتطلع لما هو أبعد من المرئى أمام العين من ظواهر وأحداث. فليس مطلوبًا فى ظرفنا الراهن أن يثبت البرلمان فى كل كبيرة وصغيرة تجاوبه السريع لنداءات وضغوط الشارع الذى يسهل استغلاله وتسخينه، وإنما مطلوب منه دوما اثبات وتأكيد عمله وسعيه غير المتوقف لتوقير واعلاء راية القانون والدستور، فتلك قيمة يتعين تقديمها على ما عداها، وأن وقته أثمن من إضاعته فى مناقشة أمور كان من المفروض احالتها للجنة من لجانه الفرعية لدراستها بتأن واستفاضة، ثم البت فيما يجب اتخاذه من اجراءات وعقوبات. مطلوب أيضا أن تكون آليات المحاسبة شفافة ومطبقة على الكل، وأن تتوخى طول الوقت المصلحة العامة، وبما أننا وصلنا لهذه النقطة يستحسن أن نجيب عما يلي: مَن المخول بالتحدث باسم الشارع؟ فما أكثر مَن يتكلمون باسمه، ويشعرونك بأنهم حصلوا على تفويض مفتوح من المواطنين للحديث بلسانهم وقتما يشتهون. وكمجتمع ناهض تعترض طريقه عراقيل وألغام لا حصر لها هل صرنا نفضل البتر على المحاسبة؟ التساؤل ليس مرتبطًا ولا مقصورا على ما وقع لعكاشة، فالسؤال جد خطير وحساس للغاية، ففى نواح تستوجب البتر نجد المحاسبة مقدمة ومفضلة، والعكس صحيح. مثلا أرى أنه كان من الأوفق عدم السعى للتصالح مع المتعدين على أراضى الدولة التى بنوا عليها منتجعات وقرى سياحية وفيلات تباع بملايين الجنيهات، فهؤلاء يجب التعامل معهم بالبتر وليس المحاسبة وتقسيط غرامات المخالفات والتعديات، حتى يكونوا عبرة ومثالا لكل من يفكر ثانية فى الاستيلاء على شبر واحد من أملاك وأراضى الدولة واضعا فى تقديره وذهنه أن تجاوزاته سيتم العفو عنها وقبول الأمر الواقع كما هو، والاستعداد لدفع الغرامة، فهذه الزمرة عليها أن تعلم أن من يقترب من فم الأسد سيفقد يده الممدودة وربما رأسه. فلكى نتقدم يجب بيان أن من يخطئ سوف يُحاسب حساب الملكين وبقسوة سيف القانون وليس الأهواء الشخصية، ولا أميل لاختصار المسافات وإدخار الجهد باللجوء للبتر، إلا ضد كل مَن يرفع سلاحًا فى وجه شرطتنا وقواتنا المسلحة، ويدبر لعمليات إرهابية، ويتلاعب بقوت المواطن والسلع الاستراتيجية، ويلوث نهر النيل. المسألة الثانية أن المجتمع مطالب بحسم مواقفه بوضوح وجلاء تجاه موضوعات تثير البلبلة والخلافات غير المأمونة عواقبها، من بينها التطبيع، رب قائل إن الموقف واضح ومحدد من زمن بعيد، منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام نهاية سبعينيات القرن الماضي، وأن المصريين يرفضون التطبيع الشعبى بجميع صوره وأشكاله مع الإسرائيليين الذين يحتلون فلسطين ويذيقون أهلها من صنوف العذاب والهوان الكثير، ويعتدون على المسجد الأقصى ويدنسون ساحاته يوميا. ظاهريا الكلام له وجاهته ومنطقه، لكنه لايتماشى مع تطورات وتحولات العلاقات المصرية الإسرائيلية، وما طرأ على الساحتين الداخلية والإقليمية من تغيرات عاصفة، وقبل الايضاح أؤكد أن سطورى ليست دعوة لأخذ الإسرائيليين بالأحضان وفتح بيوتنا لهم، ونسيان شهدائنا الذين سقطوا فى حروبنا مع إسرائيل، لأن هناك جدارًا شاهقًا من عدم الثقة بين شعبنا وإسرائيل. فبينما نقول إننا نقاطع إسرائيل شعبيا يلتقى السفير الإسرائيلى مع كثيرين فى الخفاء وهو ما لا يتسق مع التوجه العام المعلن، فلنكف عن المراوغة ولنلتزم بموقف ثابت، والقصة فى الحقيقة اعمق من لقاءات مع إسرائيليين، لأنها تتصل بمحاولة تل أبيب جرنا لفخ تبدو فيه كحمل وديع يمد يده بالخير والسلام، ولكن هدفها اثارة اضطرابات وإحداث هزات داخل مصر لتشغلنا عن هدفنا الرئيسى بالبناء والتعمير. لا أظن أن مصلحتنا الآن تقتضى فتح جبهة مناوشات سياسية مع إسرائيل، أو اللعب فى منطقة إدخال تعديلات على معاهدة كامب ديفيد، وعلى الذين يرتدون ثوب البطولة والعنترية قراءة المشهد جيدا قبل أن يضروا بحاضر ومستقبل وطننا. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي