فى المبنى الضخم الذى يضم مقبرة الزعيم الصينى الراحل ماوتسى تونج، طلب المرافق أن نحنى الرأس ثلاث مرات احتراما وتوقيرا للرفيق الذى يرقد فى صندوق زجاجي، وقد حافظوا على ملامح وجه الجثمان وكأنه يرقد فى هدوء. قلت لصديقى هامسا: هكذا تخلق الشعوب آلهتها».. لو أن معجزة ما أعادت الحياة مرة أخرى لذلك الجثمان المسجى أمامنا، وخرج من بوابة ذلك المبنى الضخم إلى ميدان القبة السماوية الشهير متوجها إلى المدينة المحرمة، فلابد أنه لن يتعرف على ما يراه.. إنها صين أخرى غير تلك التى تركها. كانت الابتسامة العريضة ترتسم على ملامح الرفيق / وانج مان تشاو أمين عام مركز بحوث إصلاح النظام السياسى والإدارى الصيني، وهو يفتتح محاضرته الشيقة، ويجب أن نلاحظ منذ البداية أن الابتسامة تعد بمنزلة علامة تجارية صينية يتم تسويقها مع بضاعتهم السياسية. المدينةبكين العاصمة، لا تختلف كثيرا عن أى مدينة أوروبية أو أمريكية معاصرة.. عمارات شاهقة، شوارع كبيرة نظيفة، مرور منساب بسلاسة ونظام، جسور ممتدة فى كل اتجاه.. إلخ.. أنت لست بالضبط فى بكين التى دخلها الرفيق / ماو على رأس جيش من الفلاحين، أو التى غادرها تمتلئ شوارعها بالدراجات .. كان الوفد العربى خليطا من أحزاب شيوعية ويسارية عربية من المغرب العربى وسوريا وفلسطين، ومصر والعراق ولبنان، لذلك لم يكن غريباً ان تتصاعد «الينبغيات» (جمع تعسفى لكلمة ينبغي) على ألسنة بعض الرفاق العرب، وقد وجد هؤلاء ما ينصحون به ممثلى الحزب الشيوعى فى الصين الشعبية. فى اجتماع مع أحد خبراء مكتب اللجنة المركزية للحزب الشيوعى الصيني، لم يشعر أحد الرفاق بأى حرج حين تمطع وتمطى وأطلق كلمة «ينبغي» وأتبعها بنصيحة مهمة للرفاق الصينيين كى «ينظفوا» شيوعيتهم من جراثيم الرأسمالية قبل فوات الأوان، وأن يستعيدوا النقاء النظرى الذى تميز به عهد الرفيق الراحل «ماو» بل الله تربته.. وكان الرفاق الصينيون ينصتون باهتمام فى صبر أيوب دون أن يتخلوا عن ابتسامتهم المميزة . قال رفيق عربى آخر دون أن يخفى ضيقه وتكشيرته: ينبغى على الرفاق فى الصين أن يتمسكوا بأهداب الشيوعية فى نسختها الأصلية»، وكأن السلفية الشيوعية العربية غير قابلة لأى فكر جديد أو تطوير على الفكر القديم، ويستشهد نفس الرفيق الشيوعى العربى بمقولة قديمة «عن تعايش الفئران مع القطط»، بينما الرفاق الصينيون يهزون رءوسهم فى أدب ويبتسمون بشكل لا يفهم منه إذا كانت ابتسامة مرحبة بما يقال أو أنها تكبت قهقهة ساخرة تود لو تحررت عبر قاعات الاجتماعات الضخمة . دون إرادة منى همست لنفسى بصوت مسموع: تباً لتلك - الينبغيات - التى ما أقامت جدارا ولا أطعمت قطا ولا فارا ولا قتلت ذبابة».. ويبدو أن الرفيق الجالس إلى جوارى سمعني، لأنه سألنى باهتمام عن كاتب «القصيدة» التى أهمس بها، قلت له متبسما: شاعر «حلمنتيشى» فهز رأسه متفهما. شرح الخبراء الصينيون نظريات وتطبيقات الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، واجتهدوا فى تقديم صورة واقعية عن التطور الذى شهدته الصين (وهو ما أرجو أن أعود إليه فى مقالات أخرى)، لم يخجلوا من الاعتراف بتواضع أنها «دولة نامية» لاتزال تواجه مشكلات عديدة فى التطبيق، ومنها استمرار وجود الفقر فى قطاعات واسعة وخاصة فى المناطق الريفية، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وظاهرة العمالة الموسمية وهجرة المزارعين لحقولهم كى يعملوا فى المدن، بل وأوضحوا أيضاً زيادة حجم الفساد وقدموا لنا أسماء بعض كبار المسئولين الذين تورطوا أخيرا فى الفساد، ومنهم وزراء وكبار مسئولين فى الحزب، احدهم مثلاً حصل بشكل غير مشروع على ثلاث شقق سكنية ووجدوا لديه كميات من الذهب.. إلخ. وهؤلاء جميعا تمت معاقبتهم بكل قوة القانون.. رغماً عن كل ذلك، طمع رفيق عربى كى يتساءل مستنكرا عن كيفية تطور الصين من دولة متخلفة إلى دولة متقدمة دون المرور بمرحلة الاشتراكية ووفقا للمراحل التى تحدث عنها المغفور له كارل ماركس، فأحنى الرفيق الخبير الصينى رأسه مفكرا، ثم رفع رأسه أخيرا كى يقول متبسماً وباقتضاب: نحن لا نهتم كثيرا بالجوانب النظرية لأننا نعيش فى بيئة موضوعية ويجب أن نعزز أوضاعنا الداخلية حتى نستطيع مواجهة الأخطار الخارجية»، لكن الرفيق العربى كان لا يزال غاضباً، مندهشا، متاثرا، فقال معلقاً: يا رفيق . اكو خلل فى آليات السوق»، ويبدو أن المترجم لم يفهم المقصود وساد الارتباك اللغوى بعض الوقت حتى قطع الخبير الصينى قول كل خطيب مبتسماً فى هدوء وهو يقول: آليات السوق لم يكن لها دور فى المشكلة الاقتصادية عام 2008» .. كان التساؤل الذى لم يجد إجابة طول الوقت يتعلق بالسبب والدافع وراء قيام الحزب الشيوعى الصينى بهذه المبادرة بدعوة أحزاب شيوعية ويسارية عربية، فهل هو مد جسور إلى المجتمعات العربية دون المرور عبر الشرايين الرسمية التى تكلست وتعانى الكولسترول البيروقراطي، أم أن الدافع الحقيقى هو محاولة مخلصة من الحزب الشيوعى الصينى للتواصل مع الأحزاب الاشتراكية فى العالم كى يوضح نظريته التى مزجت بمهارة بين اقتصاديات السوق وبين استمرار سيطرة الدولة على إدارة الاقتصاد، أو ما يمكن أن نطلق عليه باختصار «الانفتاح الموجه».. إن علاقات الإنتاج التى تحدث عنها ماركس وإنجلز وكل من أتبعهما بإحسان من رسل الشيوعية تواجه بالفعل اختبارا حقيقيا فى التطبيق الصيني، رغم حرص المسئولين الصينيين على تأكيد استمرار تمسكهم بالأصول النظرية للشيوعية، لذلك قاموا بترتيب زيارة للوفد العربى إلى متحف الذكريات الشيوعية الذى تتصدره تماثيل وصور وخطابات لماركس وإنجلز وأوائل الصينيين الذين اعتنقوا هذه النظرية .. تأملت طويلاً فى وجه الرفيق «ماو» خلف الزجاج السميك، حاولت أن أتخيل ما كان يمكن أن يعلق به على «ينبغيات» بعض الرفاق العرب، تصورته يبتسم ساخراً وهو يقول إنه مسئول عن حياة شعب تعداده مليار وأربعمائة نسمة، وهى مسئولية تتكسر أمامها كل «الينبغيات».. أما كيف ذلك، فهذا حديث آخر . لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق