أسعدتنى كثيراً الدعوة التى أطلقها الأهرام بعنوان «تجديد الفكر قبل تجديد الخطاب» بتاريخ 6 فبراير 2016، والتى تتمحور حول إعادة طرح قضية تجديد الخطاب الدينى بتحويل الاتجاه نحو تجديد الفكر بوجه عام قبل التصدى إلى تجديد الخطاب الديني. أنا هنا أحاول الاستجابة إلى تلك الدعوة التى أعتبرها فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وأبدأ استجابتى بمحاولة لبلورة القضية موضوع الحوار ثم أطرح مقترحاتى للعلاج. فى المقال (التقديم) الذى كتبه الأستاذ محمد أبوالفضل تكرر ذكر لفظ «العام» مع ارتباطه بالإصلاح والعقل، وهو يلمح فى ظنى إلى قضية التنوير كما يعرفها أحد أهم مؤسسى التنوير فى أوروبا فى القرن الثامن عشر وهو الفيلسوف الألمانى عمانويل كانط فى مقاله الشهير «جواب عن سؤال ما هو التنوير؟» (1784) حيث عرف التنوير بأنه «خروج الإنسان من حالة اللانضج التى فرضها على نفسه». وحالة اللانضج هى عدم القدرة على إعمال العقل (أو إعمال الفهم) بدون وصاية. وعدم القدرة ليس مردودا إلى خلل أو تلف فى العقل ولكن إلى حالة الكسل العقلى وعدم القدرة على الحسم وافتقاد الجرأة فى إعمال العقل «كن جريئاً فى إعمال عقلك» هذا وحيث إن دعوة الأهرام موجهة إلى المهمومين بقضايا تجديد الثقافة وهم بالضرورة المثقفون، فإن المسئولية تقع عليهم إما سلبيا أو ايجابيا ونسأل من هو المثقف؟ يقال إن المثقفين هم «إنتليجنسيا» وهذا المصطلح الإفرنجى مشتق من لفظ Intellect أى العقل، إذاً المثقف هو الإنسان الذى يعمل عقله فى أمور الحياة والمجتمع من أجل التغيير بناءً على رؤية مستقبلية، وهذا التعريف يلزم المثقف أن يمارس ما يسمى «الإعمال العام» لعقله من أجل تدريب عامة الناس على إعمال عقولهم والاعتماد على أنفسهم بدون حاجة إلى أوصياء، وهذه هى رسالة التنوير. لهذا فإذا أردنا تعريفاً جامعاً شاملاً للفظ المثقف فهو «المُنَوِّر» (بضم الميم) والسؤال الآن: هل ينطبق هذا على «المثقفين» المصريين؟ الإجابة عن هذا السؤال تتحدد بمدى قوة أو ضعف التيار المضاد للتنوير، وأعنى به تيار الإخوان المسلمين. وحيث أن هذا التيار قد بلغ من القوة التى جعلته يتغلغل فى كل مؤسسات الدولة ومكنته من أن يستولى على عقول أفراد الشعب المصري، وأن يستولى فى نهاية المطاف على سلطة حكم البلاد من خلال تصويت الجماهير لصالحهم فى الانتخابات. عندما يثار السؤال الملح، أين المثقفون من تيار الإخوان؟ فإن الجواب هو أن المثقف المصرى خائف، وهذا الشعور بالخوف يأتيه من جهتين من الدولة ومن تيار الإخوان. والسؤال هو لماذا يخاف المثقف من الدولة؟ إذا تصور المثقف أن إعمال عقله ينحصر فى نقد الدولة بدعوى محاربة الفساد، فإن للمثقف الحق أن يخاف من الدولة التى ستسعى للحفاظ على نظامها حتى إذا استلزم الأمر البطش بالمثقفين. السؤال الثاني، لماذا يخاف المثقف من تيار الإخوان؟ إذا ظن المثقف أن التصدى لهذا التيار يكمن فى الدخول فى سجال فكرى مع هذا التيار بدعوى نشر ما يسمى «صحيح الدين» فإن للمثقف الحق فى أن يخاف من هذا التيار الذى سيوجه إليه تهمه الكفر. وفى الحالتين فالمثقف يتوهم أن رسالته آنية ومباشرة و تقوم على رد الفعل العاجل لما يجرى حوله من أحداث. لكن السؤال الجذرى هو، هل مهمة المثقف المُنَوِّر نقد الدولة ؟ أظن أن المسألة على خلاف ذلك لأن مهمة المثقف المُنَوِّر تتجه إلى رفع الوصاية عن عقل الجماهير بنشر ثقافة التنوير التى تتمثل فى العقلانية والاعتماد على العقل فى تسيير أمور الحياة وليس على الخرافة. وهذه المهمة لم تتحقق والدليل على ذلك أن الواقع العملى يقول بأن التيار المتحكم فى المجتمع هو التيار الأصولى الدينى المتمثل فى جماعة الإخوان والجماعة السلفية، وأن هذا التيار قد استولى على عقل الجماهير من خلال الفتاوى الفاسدة التى ينشرها بين الناس ومن خلال أجهزة الإعلام. والسؤال الآن، من المسئول عن السماح للأصولية بأن تكون تياراً جماهيرياً ؟ إنهم المثقفون، ولكنه يحلو للمثقفين إلقاء اللوم على الدولة، وهم بذلك يعفون أنفسهم من المسئولية لكى يستمروا فى أداء الدور الزائف الذى يتصورون أنه دور المثقف وأعنى بذلك التصدى للدولة بالهجوم. وأنا أسمى هذا الدور بالزائف لأن مهمة المثقف «المُنَوِّر» أو بالأدق رسالته، هى رسالة التنوير وهى فى حقيقتها رسالة بعيدة المدى حيث أنها تنشد تغيير ذهنية رجل الشارع من نسق الفكر اللاعقلانى الخرافى إلى عقلانية التنوير. من هذه الزاوية فإن رسالة المثقف من حيث هى رسالة التنوير تقف عند حد توعية الجماهير بحقيقة التنوير وتدريبهم على ممارسة إعمال العقل من أجل تغيير أحوالهم المعيشية إلى الأفضل اعتماداً على أنفسهم، وليس التصدى للدولة بالهجوم لأن هذه مهمة الناشط السياسي، أو بالأدق الناشط الحزبي، وليست مهمة المثقف، أو بالأدق «المُنَوِّر». من هنا فإن تجديد الفكر سابق على تجديد الفكر الديني، حيث أن الهدف من تجديد الفكر هو إعادة بناء البنية الذهنية لعقل الجماهير، والتى تستند إلى الفكر الأسطورى الخرافي، مما جعل مهمة التيار الأصولى الدينى مهمة سهلة لأنه يتبنى فهماً وتفسيراً لاعقلانياً للدين ويحرم إعمال العقل ويكفر كل من يختلف معه فى الرأى لأنه يقوم على مبدأ السمع والطاعة. كما ساهم فى انتشار هذا التيار الأصولى اللاعقلانى القنوات الفضائية الدينية بواسطة شيوخ أطلقوا على أنفسهم لقبا ،وبناءً عليه فإنه يصبح من حقنا أن نوجه اللوم إلى المثقف المصرى الذى خان مسئوليته وخان الجماهير فتركها فريسة فى يد أعداء التنوير. مبرراتى فى توجيه هذا اللوم هو أنه لو كانت جماعة المثقفين قد قامت بمهمتها فى تنوير الجماهير لكانت الجماهير قد تحررت من الفكر الأسطورى الخرافى الذى يجعلهم فاقدى المناعة تجاه الاختراق الدينى . وأختتم بطرح اقتراح موجه إلى المفكر المتنور الأستاذ حلمى النمنم وزير الثقافة، بتأسيس مشروع قومى تتبناه وزارة الثقافة لنشر ثقافة التنوير. وهذا المشروع ذو شقين. الشق الأول نظرى ويشتمل أولاً على ترجمة تراث التنوير الأوروبى وإعادة طبع تراث التنوير المصرى والعربي. وعقد دورات تدريبية بهدف إعداد المثقف «المُنَوِّر» المطلع على تراث التنوير فى العالم ثم ربطه بثقافة المجتمع المصرى بهدف تحرير عقول الجماهير من الفكر الأسطورى وبث روح التنوير والعقلانية. أما الشق العملى فيتحدد فى إعادة الحياة إلى قصور الثقافة الجماهيرية التى كادت تتحول إلى أطلال وجعلها مقرات للتنوير ينشر من خلالها فكر ومبادئ وقيم وآداب وفنون التنوير، شريطة أن يتولى الأمر برمته مجموعة من المفكرين والباحثين والأدباء والفنانين المؤمنين إيماناً صادقاً بقضية التنوير وبأنها هى العلاج للمرض الذى يعانى منه العقل العام المصري. لمزيد من مقالات د. منى ابو سنة