مع كل حدث تشهده مصر ينبثق التساؤل إلي أين تسير البلاد دون أن يحاول أحد وضع يده علي مكمن المشكلة, فأحداث العباسية الدموية وأزمة الجمعية التأسيسية, وأزمة العلاقة بين الحكومة والبرلمان واللغط حول الانتخابات الرئاسية, والشك حول تسليم المجلس العسكري للسلطة, كلها أعراض لمرض حقيقي يستفحل يوما بعد الأخر يتمثل في أن المرحلة الانتقالية لا يحكمها إطار واضح ومحدد يتفق عليه الجميع ليضمن توجيه التفاعلات السياسية صوب الاتجاه الصحيح الذي ينقل مصر من الدولة المستبدة إلي الدولة الديمقراطية المزدهرة. وتكمن أسباب المرض الذي تعانيه مصر حاليا في أن الاختلافات السياسية والأيديولوجية والدينية والتي كانت تكمن تحت السطح نتيجة قمع واستبداد النظام السابق تحولت بعد ثورة25 يناير إلي تناقضات جوهرية, تتسع يوما بعد الأخر, وأصبح لدينا صراع مستمر بين أنظمة متعددة, بين نظام قيمي جديد لم تتبلور ملامحه بعد وبين نظام قيمي سابق مازالت له الغلبة, وبين مرجعية قانونية ثورية ومرجعية قانونية قديمة مازالت تحكم التفاعلات السياسية والقانونية, بحيث يمكن من خلالها استغلال ثغرات النظام القانوني الثوري مثل قضية عدم الدستورية سواء للبرلمان أو لقانون العزل أو للترشح لرئاسة الجمهورية, كما أن تعدد أطراف وفواعل العملية السياسية, ما بين فواعل إسلامية وفواعل مدنية ثورية وفواعل ترتبط أو تمثل امتدادا للنظام القديم, والتي من المفترض أن يتحول إلي عامل ثراء بما تحمله تلك الفواعل من وجهات نظر متباينة, تحول إلي أن كل فاعل يمثل نظاما في حد ذاته له قيمه ومرجعيته ومصالحه وأهدافه التي يتحرك من خلالها, دون أن يكون هناك قاسم مشترك أو إطار عام ينظم العلاقة وقواعد عمل ولعب هؤلاء الفاعلين. وهنا تبدو المعضلة الحقيقية للمرض الذي نعانيه في أن الديمقراطية كفكرة وثقافة ونمط سلوك لم تنضج بعد في البيئة المصرية, وهو ما بدا في أن أي اختلاف أو تعارض في الآراء أو المواقف سرعان ما يتحول إلي عداء وإلي صراع يحاول كل طرف فرض إرادته, مثلما حدث في صدامات العباسية الدموية وقبلها أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الشعب وغيرها, وهو ما بدا أيضا في الصراعات بين التيارات السياسية والتي يغذيها الإعلام بأجنداته المختلفة. كما أن هذا المرض قد جعل العملية السياسية هشة ومفتوحة لكل التفاعلات والتحركات العشوائية يحكمها الشك والعداء المتبادل وهنا مكمن الخطورة, فمن ناحية فإن المسار الذي تسير فيها هذه التفاعلات وتحدث فيها هذه الاختلافات يبتعد شيئا فشيئا عن المسار الحقيقي الذي قامت من أجله ثورة يناير وهو الانتقال بمصر إلي دولة عصرية حديثة تترسخ فيها الديمقراطية والتنمية الاقتصادية وتتحول فيها الاختلافات إلي عامل ثراء في إطار من التعايش بين الجميع في إطار يجعل مصلحة مصر العليا هي القاسم المشترك بين كل الأطراف علي اختلاف توجهاتها. ومن ناحية ثانية فإن الدوران في فلك الصراعات يعمق من حدة الاستقطاب في المجتمع وحالة عدم الثقة بين أطراف العملية السياسية مما يزيد من أمد المرحلة الانتقالية, وهي ليست المرتبطة بتسليم السلطة, وإنما المرتبطة بضبط التفاعلات وتحقيق واستقرار النظام الجديد بقيمه الديمقراطية في الحوار والتفاهم والتوافق ومعالجة الاختلافات بطريقة سلمية, فحتي مع انتخابات البرلمان وانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة, وهو ما يعد إنجازا في حداته ذاته, لكنه سيكون إنجازا بلا قيمة مادامت المنظومة السياسية والقانونية والثقافية لم تكتمل. وهنا يبرز التساؤل كيف نعود إلي المسار والطريق الصحيح ونمنع تكرار مسلسل الصدام وتتوقف حالة الفوضي السياسية؟ الواقع أن المخرج هو أن تكون هناك وقفة حقيقية من جانب كافة الأطراف والقوي السياسية الفاعلة من أجل مراجعة ما حدث ولماذا حدث وأن يمتلك كل طرف الشجاعة في الاعتراف بأخطائه والعمل علي تصحيحها والاقتناع بأن استمرار هذا الوضع سيكون خسارة للجميع بل خسارة عظمي لمصر ومستقبلها وضياعا للثورة ومنجزاتها, أي أننا في حاجة فورية لعقد مؤتمر وطني يجمع كافة القوي, يكون فيه حوار جاد ومخلص, أولا للاتفاق علي أجندة وطنية محددة تعيد ترتيب الأولويات الحقيقية للمجتمع والتي ينبغي أن يعمل من أجلها الجميع, وثانيا الاتفاق علي كيفية إدارة ما تبقي من المرحلة الانتقالية خاصة حسم قضية تشكيل الجمعية التأسيسية وإنجاز الدستور قبل الانتخابات الرئاسية, وإذا تعذر ذلك يمكن الاتفاق علي إعلان دستوري مكمل يحدد صلاحيات واختصاصات الرئيس, كذلك الاتفاق علي خطوات وإجراءات نقل السلطة من المجلس العسكري, والمهم أن يكون ذلك وفق توافق واتفاق جميع القوي بحيث يكون منهج عمل وخريطة طريق ملزمة لجميع الأطراف لنزع أسباب الالتهاب المزمنة. وبالطبع عندما تحتكم الأطراف المختلفة لمصلحة مصر وتغليبها علي أية اعتبارات أخري, فليس من الصعب التوصل إلي مثل هذا الاتفاق الذي من شأنه أن يصحح مسار الثورة لتحقيق أهدافها, وبدون ذلك فإن حالة الفوضي السياسية والأمنية الحالية ستتحول بمرور الوقت إلي نظام مستقر يحل محل حالة الاستبداد السابقة ويطيل من أمد الأزمات وتكرار الصدامات, وستظل مصر علي سطح صفيح ساخن قابل للاشتعال في أية لحظة. المزيد من مقالات احمد سيد احمد