كلما توجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، شرقًا أو غربًا، تتعلق الانظار والأذهان بوجهته، مفتشة عن المغزى والمرجو، من اختيار هذا البلد دون غيره، والعائد المنتظر من الزيارة على مستقبلنا المنظور والبعيد، وتحسين أوضاعنا الاقتصادية والمالية. وبحلول الأسبوع المقبل يستهل الرئيس السيسى جولة خارجية مهمة ستقوده لليابان ثالث أكبر قوة اقتصادية فى العالم، وكوريا الجنوبية التى تحتل المرتبة ال 14 بين كبريات الاقتصاديات العالمية، ومن ثم فنحن فى غنى عن الشرح والتفصيل فيما يتعلق بمغزى اختيارهما، وسينصب اهتمامنا على المتوقع أن نجنيه. بطبيعة الحال سيقال كلام كثير محفوظ عن ظهر قلب حول الاستثمارات والمشروعات المشتركة وغيرها من الأمور ذات الصلة بشئون الاقتصاد والمال، ولا شك أنها حيوية وضرورية لنا إن نظرنا لحالنا الاقتصادي، لكن فى الوقت نفسه ستكون هناك هدايا قيمة بانتظار الرئيس السيسى فى طوكيو وسول. سنبدأ بهديتين يابانيتين تنتظران الالتفات إليهما ودراستهما بإتقان لنسخ المناسب منهما وتطبيقه فى بلادنا، الأولى نظام التأمين الصحى الشامل، والثانية أساليب تطوير المناهج التعليمية. قبل مناقشة الهديتين وأبعادهما يجب بداية معرفة أين تقف العلاقات المصرية اليابانية والمأمول لها؟ هذه العلاقات تمر حاليا بمرحلة إعادة صياغة تضع فى حسابها ما طرأ من متغيرات وتحولات جذرية فى غضون السنوات الخمس الماضية، وسعى القاهرة الحثيث لنفض الغبار المتراكم الذى أعاقها عن ممارسة دورها الاقليمى الطليعي، والمشاركة الفاعلة والمثمرة فى تسوية أزمات مصيرية فى الشرق الأوسط بعضها يهدد بقاء كيان الدولة ذاته، ويزج بها إلى مستنقع الفوضي، والاقتتال الاهلي، بينما تتصارع القوى الكبرى التقليدية والحديثة على مواضع النفوذ، وتنخرط فى مشاكسات لا تتوقف بغية رسم خريطة جديدة للمنطقة تتناسب مع خطط وتصورات الكبار. من جهتها، فإن اليابان تعلم علم اليقين أن مصر هى بوابتها الملكية للشرق الأوسط، وأن مصلحتها تقتضى مد جسور الود والتفاهم معها، لا سيما مع تطلع الحكومة اليابانية للقيام بدور نشيط على الساحة الدولية، وأن الوجود اليابانى فى المنطقة يخدم أجندتها الاقتصادية المتمثلة فى الاستثمارات وعوائدها، وتأمين مصادر حصولها على الطاقة، وحماية أمنها القومي، ومقاومة قوى الإرهاب والظلام، وتتابع بعين فاحصة ما حققته الصين فى منطقتنا، بهذه العوامل وغيرها حسمت طوكيو أمرها على التواصل مع مصر بعد أن حددت موقفها النهائى من ثورة الثلاثين من يونيو، وأعلنت احترامها لخيارات الشعب المصري، وأبدت استعدادًا قويًا للانفتاح على القاهرة والتعاون معها، وعلينا عدم تفويت فرصة إقبالها نحونا. الاقبال اليابانى يعيدنا ثانية للهدايا المنتظرة، فاليابان بها واحد من أفضل أنظمة التأمين الصحى فى عالمنا المعاصر، ويغطى ما يزيد على 90 % من تعدادها البالغ 127 مليون نسمة، ويتحمل المواطن 30 % من التكلفة، فى حين تتحمل الدولة 70%، وتخصص الحكومة نحو 10٫2 % من اجمالى الناتج المحلى المقدر ب 4 تريليونات و658 مليار دولار للرعاية الصحية، واستنادا لبعض الاحصاءات والبيانات الرسمية فإن نصيب اليابانى من ميزانية الرعاية الصحية نحو 30 ألف دولار سنويا. والخدمة المقدمة عبر المستشفيات العامة والخاصة فائقة الجودة ولا تعرف التمييز (8 آلاف و500 مستشفى)، وتتفوق اليابان فى بعض القطاعات على نظيرتها فى الولاياتالمتحدة التى يُضرب بها المثل فى مستوى وجودة الرعاية الصحية، وإلى جوار نظام التأمين الصحى الحكومى هناك آخر خاص يشترك فيه غالبا الأجانب المقيمون بالمحافظات اليابانية ال 47، وعلى كل فسواء كان التأمين الصحى حكوميًا أو خاصًا لا يوجد فرق فى جودة الخدمة، لأن الدولة مؤمنة بأن الخدمات العامة للمواطن لابد أن تكون دوما فى فئة الأفضل والأحسن وليس بنظرية «على قد فلوسك». يلزمنا التمعن فى التأمين الصحى الياباني، والاقتداء به لكى نطور رعايتنا الصحية، ومستشفياتنا الحكومية، حتى يشعر المواطن أنه بالفعل فى بؤرة الاهتمام. الهدية الثانية هى الجهد المبذول من قبل الحكومة اليابانية لتطوير المناهج التعليمية كجزء من استراتيجية شاملة لتغيير وجه البلاد فى الألفية الثالثة، وبما يتيح لها القدرة على البقاء بركب التقدم والتحديث وعدم التخلف عن تطوراته، وجل عمليات التطوير تتم فى المرحلة الابتدائية والتعليم الجامعي، اى فى مرحلتى التكوين والنضوج، وبلغة الأرقام فإن عدد المدارس الابتدائية باليابان يبلغ 22 ألفا بها قرابة 7٫1 مليون طفل، أى مرتين ضعف عدد المدارس الاعدادية، و4 أضعاف المدارس الثانوية، وهو ما يشير الى ما توليه طوكيو من عناية بالنشء وإعدادهم. ويتركز الجهد الاصلاحى فى الابتدائية على جانبين، الأول البدء فى تعليم الأطفال اللغة الإنجليزية من الصف الثالث الابتدائى بدلا من الصف الخامس على أن يكون عدد الحصص اثنتين أسبوعيا، والثانى إعداد المعلمين جيدا وتطوير أدواتهم وامكاناتهم باستمرار حتى يستطيعوا اخراج أجيال واعية منفتحة على العالم ومستجداته. بالنسبة للتعليم الجامعى فإن تطويره يستهدف زيادة تنافسية اليابان دوليا، وذلك من خلال السعى لإدخال عشر جامعات اليابان بها 80 جامعة ضمن قائمة أفضل الجامعات فى العالم بدلا من اثنتين فى التوقيت الراهن هما جامعتا طوكيو وكيوتو، لكن كيف سيتم هذا؟ سيتحق المراد بدعم الابتكارات التكنولوجية والوصول بالدراسات المعدة لنيل درجة الدكتوراه فى العلوم والرياضيات إلى 35 ألفا فى السنة، وتخصيص 5 مليارات دولار لشراء أجهزة لوحية وكمبيوتر، وتعزيز الدراسات بالجامعات باللغة الانجليزية، وفتح المجال أكثر للاساتذه الأجانب للعمل فيها. تلك أمثلة سريعة لما يدور فى قطاعى التعليم والرعاية الصحية، والغوص فيهما سيجعلنا نستكشف الكثير والكثير من الخفايا والمزايا، اما عن هدايا كوريا الجنوبية فسنتناولها الأسبوع المقبل إن شاء الله. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي