تخيل لثوانٍ معدودات كيف سيكون حال الأمتين الإسلامية والعربية لو أنهما نجحتا فى صياغة مناهج تعليمية محكمة تنقل عن الإسلام سماحته، واعتداله، وتعاليمه الإنسانية الرفيعة، وتربيته الأخلاقية العظيمة؟ بالتأكيد سيكون حالهما أفضل وأعظم شأنا، ولن يشار بأصابع الاتهام للدين الحنيف، وتحميله مسئولية استشراء الإرهاب والربط التعسفى الظالم بينهما، وتغول الفكر التكفيري، والحض على نبذ الآخر وتدميره، علاوة على فتح مساحات شاسعة للتقارب والتواصل الحضارى بين الأمم والشعوب وليس الاقتتال والطعن المتبادل فى الدين. فالدول الإسلامية تتهرب من الاعتراف بواقع عجزها عن تدريس الدين لطلاب مدارسها بالصورة الصحيحة القويمة المعبرة عن قيمه ومبادئه السامية التى شوهتها أفعال وجرائم نفر من المسلمين، ولو كانت واجهت النفس مبكرًا بتلك الحقيقة لتبدلت الأحوال والمآلات، وما كنا قد وصلنا إلى محطة «داعش» ذلك التنظيم الذى أساء للإسلام ولطخ ثوبه الطاهر، وظلمه ظلما بينًا. لذا، فإن إقدام ملك المغرب محمد السادس الأسبوع الماضى على مطالبة حكومته بمراجعة مناهج التربية الدينية فى مختلف مستويات ومراحل التعليم، بغرض تكريس التسامح والاعتدال، تعد خطوة شجاعة نثنى عليها، وندعو للاحتذاء بها ومتابعتها عن قرب، خاصة أنها جاءت فى سياق رؤية استراتيجية لإصلاح النظام التعليمى من الآن وحتى 2030. ولأن موضوع التربية الدينية من القضايا الشائكة التى نحجم عن الخوض فيها، خشية العواقب المترتبة عليها، فإن مصر مدعوة لمنحها اهتمامًا وعناية أكبر وأشمل، لا سيما فى ظل الدعوات التى لا تتوقف من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسى لمواجهة الإرهاب آخرها كان أمام مجلس النواب أمس الأول عبر القضاء على العوامل والأسباب المؤدية إليه، ومناهج التربية الدينية من بين الروافد الأساسية المتهمة بالتسبب فى شيوع التطرف الذى يقود فى نهاية المطاف للإرهاب. سريعا سيجيئك رد من وزارة التربية والتعليم يؤكد أنها لم تغفل هذا الجانب وقطعت فيه شوطًا كبيرًا، وسوف تسوق لك أمثلة عديدة بشأن تعديل عبارات وعناوين وتخريج بعض الأحاديث، وإضافة أنشطة وتدريبات تنمى مهارات التفكير، وتشجع على المحافظة على مياه النيل، وبر الوالدين، والصدق والأمانة .. الخ، وستختم الوزارة ردها بأنها مستمرة بلا هوادة فى تنقية مناهج التربية الدينية التى امتدت إليها اليد الخبيثة لجماعة الإخوان الإرهابية خلال عام حكمهم الكئيب للمحروسة. غير أن المشهد على أرض الواقع يقدم صورة مغايرة تماما، فرغم حذف سطور هنا وعبارات هناك فإن أسلوب تدريس التربية الدينية لم يطرأ عليه تغيير، فهو يرتكز على التلقين والحفظ بدون إعمال العقل والتدبر، والطالب غير معنى ولا مشغول باستخلاص النواحى القيمية والأخلاقية من دروسه الدينية لينتفع بها فى حياته وغده، فهمه محصور الطالب فى التخلص من مادة من المواد المقررة عليه فى الفصل الدراسي، وما أن يخرج من لجنة الامتحان حتى تتلاشى وتلغى كل المعلومات من الذاكرة. فضلا عن أننا لم نناقش مدى تأهيل أساتذة التربية الدينية لتدريسها والمعلمين على وجه العموم ، فبعضهم غير مؤهل للتدريس من الأصل، وامتهن التدريس لعدم عثوره على فرصة عمل أخري، ومن يصلح لا يحصل على دورات تدريبية تعزز قدراته ، والبعض الآخر من أصحاب الهوى من الإخوان والسلفيين والذين يلقبون أنفسهم بالجهاديين، وهؤلاء يبثون أفكارهم وسمومهم فى الأماكن التى يعملون بها، ولا أود القول إنهم يضربون بمناهج الوزارة عرض الحائط . اما الجزء الأخطر فيرتبط بأن الثقل التعليمى لم يعد فى المدارس الحكومية البالغ عددها 50 ألفًا، وإنما فى المراكز التعليمية التى أضحت المكان الحقيقى الذى يتلقى فيه التلاميذ علومهم، تلك المراكز خارجة عن حيز السيطرة والرقابة، وبعضها تابع لجماعات دينية تتخذها ستارًا للترويج لمعتقداتها وتفسيراتها للكتاب والسنة النبوية وسنة السلف، ويتشبع الطلاب بها بحكم وجودهم لفترات طويلة فيها، ولا يعرفون طريق مدرستهم إلا عند بدء امتحانات نصف ونهاية العام، والثانوية العامة نموذج حى لما سبق، فضعف النظام التعليمى وجودته هيأ المناخ لتكاثر المراكز التعليمية، وأوصلنا إلى ما نحن عليه، ولا يبدو فى الأفق خط رجعة يستطيع إعادة التوازن وترجيح كفة المدرسة مجددا. والتعليم الخاص نفسه مشكلة عويصة، فلدينا 9 آلاف مدرسة خاصة طبقا للبيانات الحكومية، فهى بدورها ليست ببعيدة عن عباءة ويد الإخوان وغيرهم، ويفعلون فيها ما بدا لهم، وأصحابها حريصون للغاية على تشكيل الطلاب دينيًا بما يتوافق مع قناعاتهم ومعتقداتهم، ويظنون أنهم يخدمون الدين، برغم أنهم يزرعون داخلهم بذرة الشطط والغلو التى تكبر وتنمو ليحصد المجتمع لاحقا مزيدًا من المتطرفين والإرهابيين المهرولين خلف أوهام دولة الخلافة، واستعادة المجد المسلوب للأمة الإسلامية التى يحاربها الغرب الكافر الفاسق ولا يريدها قوية عزيزة. وعدد من المدارس الخاصة والدولية يعتبر منهج الدين هامشيا، ويضعه ضمن مواد الدراسة فقط لأن لوائح وزارة التعليم تشدد على وجوده، وربما لا يُخصص له وقتا لتدريسه. ولا ينتبه الكثيرون لموقع آخر يوظف لتربية المتطرفين، هو دور رعاية الأيتام، فهذه الدور تقام بالجهود الذاتية من أجل البر والتقوى والفوز بالحسنات لكفالة اليتيم، وبعض القائمين عليها يتجردون من إنسانيتهم ويحولونها لمزارع للتطرف واضعين فى حسبانهم أن هؤلاء الصغار لا أسر لهم، والإخوان أشهر من استغلهم فى اعتصام رابعة، عندما أحضروا أطفالا لا يعون من أمرهم شيئا وألبسوهم أوشحة كُتب عليها «مشروع شهيد»، فى فعل ينم عن الوضاعة والخسة معا. إن اصلاح مناهج التربية الدينية مسألة مصيرية ويجب عدم تركها للجان لا ندرى كيفية اختيار أعضائها مع وافر التقدير والاحترام لهم، فالمجتمع ومؤسساته مسئول مسئولية مباشرة عن هذا من خلال الدعوة لمؤتمر عام تمثل فيه مختلف أطياف المصريين سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا للاتفاق على رؤية تصلح التعليم، على أن تكون رؤية شاملة لا تخضع لتقلبات ونزوات المسئولين. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي