يأتي عيد الحب فنجد العالم كله اكتسي باللون الأحمر لون القلب، ويذهب الأحبة لشراء الورد، ونجد الملايين في الشوارع يحتفلون بعيد الحب. ثم يعبر اليوم ولم يتغير شيء في العالم، الحروب دائرة، والصراعات تمزق جسد البشرية، والكراهية تنتشر مثل النار في الهشيم، ولا أحد يقاوم موجة الكراهية بل علي العكس نجد أنظمة وحكومات ومفكرين من يتاجرون بالدين يساعدون علي هذا. وكأن الحب قد صار ذكري تُحتفل به وليس حياة وسلوكا ومنهجا، فالقلب الذي لا يعرف الحب كيف يحتفل بعيد الحب؟. وكأن عيد الحب هو يوم وليس عمراً، وفكرة رومانسية، ولكن حقيقة الحياة تقتل كل نبضات الحب بين البشر. فالأطفال في البيوت لم يتعلموا معني الحب، فالشجار الدائم بين الوالدين هو ما تربي عليه الأطفال، ونموذج العنف في وسائل الإعلام هو ما ترسخ في أذهانهم. وفي المدارس قد يتعلم حروف الهجاء والكتابة والقراءة ولكنه لم يتعلم محبة الآخر، بل مناهج التاريخ تعلمه أن البقاء للأقوي، وأن العنف هو منهج الحياة. بل لم نهتم بالمعلم وفتحنا أبواب التعليم أمام المتطرفين والمنحرفين وغير الأسوياء لنجد في مدارسنا معلمين يحرضون أولادنا علي العداء ضد من يخالفهم في الدين، بل وقد يحرضونهم ضد الوطن ليخرج جيل كاره الآخر ومشروع إرهابي للوطن. ولا أدري لماذا لا نُدرس للأطفال كيف يحب الآخر وكيف يقبل الاختلاف؟ لماذا لا نُدرس الإنسانية مع الدين؟ لماذا لا يكون مع الأنشطة المدرسية نشاط يسمي المحبة، والمحبة بمعناها الواسع محبة الآخر ومحبة الوطن ومحبة الضعفاء؟ لأننا حين ننظر إلي مجتمعنا نجد أن سبب كل مشاكلنا هي أننا لم نتعلم الحب، نعم كل شيء في حياتنا ينقصه الحب؛ الذي يتعلم لا يحب العلم والدراسة وتكون النتيجة حفظ صفحات من الكتب دون ابتكار ولا يخرج علماء إلا نادراً. والبيوت يسكنها البرود فبين الزوجين والأولاد لا يوجد حب فتكون النتيجة هو الشجار والذاتية وعدم الترابط. وحين يعمل لا يحب العمل فتكون النتيجة ضعف الأداء الوظيفي والرشوة، ويعيش في وطن لا يحبه فيحلم دائماً بالهجرة وترك الوطن وحين لا يستطيع يظل كارها لكل شيء، وناقما علي كل شيء، بل قد يكون مخربا بالفعل أو بالقول، حتي العلاقة مع الله والدين حولناها لأوامر ونواه وليس حباً في الله. يقول الفيلسوف «أفلاطون»: «أعطوني جيشاً من المحبين وأنا أغزو العالم به وانتصر». ويقول الكاتب العظيم الروسي «أنطون تشيكوف»: «إن كان في وسعك أن تحب ففي وسعك أن تفعل كل شيء. وهذا الكلام حقيقة فعلية، فالذي يحب لا يسرق، ولا يخون، ولا يجرح أحداً،ولا يهدم، ولا يمكنه أن يعيش وهو يري أحداً يتألم. لأن الحب هو الخروج من الانحصار في الذات والتواصل مع الآخر في درجات تبدأ بالقبول وتصل إلي محبة الأعداء والمسيئين كما قال السيد المسيح: «أحبوا أعداءكم». وحين تتحكم الذات في الإنسان يفقد الحب ويتحول إلي وحش حتي ولو بصورة مؤقتة. يحكي لنا التاريخ قصة في غاية الغرابة عن الإسكندر الأكبر بعد أن أحرز انتصارات عظيمة في مصر والشام وآسيا الصغري وفارس وقف في مدينة «سمرقند» ليرتاح وترتاح الجيوش وهناك أعدت له احتفالات النصر وعملوا له مائدة عظيمة. وكان علي هذه المائدة كل قواده العظام ومنهم صديقه الأقرب «كليتوس» الذي أنقذه يوماً من محاولة اغتيال في إحدي المعارك وأصبح أقرب شخص له. وأخذ الجميع يأكل ويشرب وأخذ المادحون للإسكندر يسردون كلمات وقصائد المديح حتي وصل النفاق بأن قال أحدهم إن الإسكندر أفضل من أبيه فيليب المقدوني، وتقبل الإسكندر هذا ولكن صديقه «كليتوس» لم يقبل فقام وقال للإسكندر: «لا يا صديقي هذا الكلام خاطئ فلولا أبيك لما استطعت أنت أن تحرز هذا كله». وهاج الحاضرون وشعر الإسكندر بالضيق ونسي صداقته ونسي حبه ونسي جميل صديقه وقام ليضربه، فأمسك «كليتوس» بيد الإسكندر وقال له: «أذكر هذه اليد التي أنقذت حياتك يوماً واستمع لصوت الحق وعليك أن تدعو لمائدتك أحراراً وليس عبيدا»ً. فجن جنون الإسكندر وامتلأ غضباً وكراهية لصديقه وانتزع حربة من أحد جنوده وغرسها في صدر «كليتوس» فسقط مضرجاً في دمائه. وهنا رجع الإسكندر إلي وعيه وعبثاً حاول أن ينقذه ولكنه كان قد مات. فصعد الإسكندر إلي حجرته وارتمي علي فراشه ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يقابل أحداً ويبكي علي حماقته وكان يصرخ: «أنا الخائن، أن الغادر، إنني اليوم لست جديراً بالحياة» ويقولون إنه ظل حزيناً إلي يوم وفاته الذي كان قريباً من هذا اليوم. عزيزي القارئ قبل أن نجعل للحب عيداً فلنبحث عن الحب في حياتنا. وقد نقرع أجراس المحبة بكلمات رنانة في كل يوم ولكن إن لم نقرع الأجراس داخل قلوبنا لنحب بعضنا بعضاً سيظل الحب يوماً نتذكره وكأنه إحدي صور الإنسانية المفقودة التي كانت حلماً للشعراء والفلاسفة وتعليماً سامياً للدين، ولكن كل هذا صار مجرد حلم للبشرية التي احترفت الكراهية والتحزب والبغضة. فصار العالم باللون الأحمر لا لأجل القلوب المُحبة ولكن لأجل دماء ضحايا الحروب والإرهاب. فإن أردنا أن ينصلح حال العالم فلنجعل المحبة قانونا للحياة. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبي سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القس انجيلوس جرجس