فى إطار متابعة دوائر الأمن القومى المصري؛ الدائرة العربية، والإفريقية، والبحر الأحمر، ودائرة حوض نهر النيل، والبحر المتوسط،نركز اليوم على واحدة من أهم الدوائر التى تتحكم فى الفكر المستقبلى لمصر ... خلال السنوات الخمس القادمة ... وهى دائرة البحر الأبيض المتوسط. فى الماضى كان يعرف البحر الأبيض المتوسط بأنه «بحيرة عربية أوروبية» ... محدودة الفكر والصراعات. فالبحر الأبيض المتوسط يمثل شواطئ شمالية للدول العربية وإسرائيل ... وشواطئ جنوبية للدول الأوروبية المطلة عليه ... مع منفذ لتركيا من البحر الأسود للعالم الخارجى ... ويتحكم فيه من الغرب مضيق جبل طارق. ولقد ظلت الأمور هادئة فى البحر المتوسط، إلا من المناوشات بين تركيا واليونان حول قبرص ... أو خلال فترات التوتر بين مصر وإسرائيل فى حروبهما المختلفة. وظل البحر المتوسط محافظاً على سمته الآمنة كممر للتجارة العالمية، وخاصة نقل البترول من الخليج العربي، ماراً بقناة السويس، إلى البحر المتوسط ودول أوروبا ... ومن خلال مضيق جبل طارق إلى بريطانيا، وأمريكا، ودول أوروبا فى الشمال. وأصبح البحر المتوسط بحيرة هادئة، لا يعكر صفوها أى نزاعات، رغم وجود العديد من الدول المطلة على هذا البحر. وكانت هذه الدائرة، بالنسبة لمصر، من أكثر الدوائر هدوءاً، خاصة بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، ونظراً لما تتمتع به مصر من علاقات طيبة مع جيرانها، المطلة على البحر المتوسط، بما فيها تركيا ... قبل وصول أردوغان إلى الحكم. وفجأة، تغيرت الأوضاع تماماً مع بدء ظهور دراسات جيولوجية عن المنطقة، تنبئ بوجود بترول، وغاز طبيعى فى أعماق البحر المتوسط ... مع منطقة شمال الدلتا المصرية. وتسابقت الشركات العالمية لتوقيع اتفاقيات مع دول المنطقة، لبدء الحفر لاكتشاف الغاز الطبيعى فى المنطقة. وتؤكد الدراسات أن المناطق المتوقع وجود الغاز الطبيعى فيها بكميات كبيرة جداً تقع قبالة السواحل المصرية ... وتحديداً أمام الدلتا ... ثم جزء من السواحل الغربية لإسرائيل، وتمتد هذه المناطق حتى اليونان وجزيرة قبرص. لذلك بدأ استنفار هذه الدول مبكراً ... وانضمت إليهما تركيا ... نظراً لسيطرتها على جزء من قبرص، والمعروفة بقبرص التركية. وخلال فترة حكم الإخوان لمصر، فكر الرئيس مرسى بإعادة ترسيم الحدود البحرية مع تركياوقبرص التركية. ونحمد الله على قيام الرئيس السيسي، والشعب المصرى بالإطاحة بالإخوان ... ليعود لمصر توازنها، وقدرتها على التفكير بأسلوب عقلانى فى كيفية إدارة الأحداث فى منطقة البحر المتوسط. فقام الرئيس السيسى بثلاث زيارات، متعاقبة، لكل من قبرص واليونان، حيث تم ترسيم الحدود البحرية معهما ... فيما قد سبق هذا ترسيم بين مصر وإسرائيل، عندما بدأت إسرائيل أول اكتشافاتهافى حقلى تمار وليفياثان، وبعد نشر الإخوان تسريبات مفادها أن حقول الغاز الإسرائيلية تقع داخل الحدود المصرية ... إلا أنه بتأكد مصر من وقوع تلك الحقول داخل الحدود الإسرائيلية، تم ترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل، لمنع ولتفادى أى مشاكل فى المستقبل، خاصة فى مجالات اكتشافات الغاز الطبيعي. وحديثاً ظهرت وثيقة أمريكية، تشير إلى أن البحر المتوسط «يطفو فوق بحيرة من الغاز الطبيعي، فى مناطق مصر وشمال الدلتا، وجزء من إسرائيل، وقبرص، واليونان» ... وهو ما دفع مصر لتوقيع العقود مع كبرى شركات البترول، مثل بريتيش بتروليوم، وإينى الإيطالية، وشل الأمريكية، وغيرها من الشركات الأخري. ولقد حددت هذه الوثيقة، أنه بحلول عام 2020، ستصبح مصر من أكبر الدول المنتجة للغاز الطبيعي، من حقولها الجديدة فى البحر المتوسط وشمال الدلتا، وأن هذا الإنتاج الوفير سيحقق لمصر اكتفاء ذاتياً من الوقود اللازم فى مجالات الصناعة، والاستهلاك المنزلي، علاوة على فائض للتصدير. وأضافت الوثيقة الأمريكية، أن هذه الوفرة فى الإنتاج ستمكن مصر من مد خط لتصدير الغاز إلى أوروبا، عبر قبرص واليونان، كما ستشارك هاتان الدولتان فى استخدام ذات الخط لتصدير فائض إنتاجهما من الغاز. كما أن نوعية هذا الغاز المكتشف، حالياً، فى مصر من أجود أنواع الغاز الطبيعي، وأن تسويق هذا الغاز المصري، مستقبلاً، عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا، سيعتبر الأقل تكلفة، مقارنة بأى دولة أخري، لما سيحققه التصدير عبر أنابيب الغاز من وفر كبير، بدلاً من تحويله إلى (LNG)، أى سائل، ثم إعادة تحويله إلى غاز، مرة أخري، فى دولة الاستقبال. وتؤكد الوثيقة الأمريكية أن هذه الاكتشافات هى ما دعت الرئيس السيسى إلى توقيع اتفاقيات تعاون مع قبرص واليونان، وانتهت، اخيرا، بمناورة عسكرية، تأكيداً للتفاهم، وعمق التعاون بين الدول الثلاث. ولعلنا هنا نتذكر عند قيام ثورة يوليو 52، أن أهم حليف لمصر فى المنطقة، آنذاك،كان الأسقف مكاريوس فى قبرص ... حيث قدمت قبرص لمصر المساعدة فى العديد من المشاكل فى المنطقة. ولا يفوتنا أن نذكر أن ما قدمته من معلومات لمصر، قد ساعدت عبد الناصر فى اتخاذ قرار تأميم قناة السويس، وهو ما يؤكد أهمية أن تكون قبرص حليفاً لمصر فى منطقة البحر المتوسط. أما على جانب مصر، فقدأكدت الوثيقة أن الرئيس المصرى قام بدعم قدرات مصر الدفاعية ... بعيداً عن المظلة الأمريكية ... من فرنسا، وألمانيا، وروسيا، والصين ... بهدف حماية استثمارات مصر المستقبلية فى منطقة البحر المتوسط. وهو أمر تؤمن، وتلتزم به كل الدول؛ من ضرورة تأمين اقتصادها ومواردها، بقوة عسكريةعلى أعلى درجات الكفاءة ... والاحتراف. كما يجب على مصر أن تضع فى اعتبارها، خلال المرحلة القادمة، مواجهة بعض العدائيات الدولية فى هذا المجال ... وأخص بالذكر تركيا تحديداً ... التى ستحاول استغلال الجزء التركى من جزيرة قبرص من ناحية ترسيم الحدود البحرية فى المنطقة، والتى قد تتداخل مع حدود قبرص اليونانية ... وهو ما يجب أن يعالج فى إطار دبلوماسى بين الدولتين، تفادياً للتصعيد، الذى قد يصل لمواجهة عسكرية بين تركيا واليونان ... كما حدث من قبل. وبهذا يتضح أن دائرة البحر الأبيض المتوسط، أصبحت، حالياً، أهم الدوائر التى تؤثر فى مجريات الأمن القومى المصرى فى الفترة المقبلة. وهو ما يلزم بمصر بضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنشيط علاقاتها الدبلوماسية ... والاقتصادية ... والثقافية مع دول البحر المتوسط. وبالرغم من أن سياسة مصر الخارجية لا تميل إلى الدخول فى تحالفات مع العديد من الدول، إلا أنه يمكننا التوصية بزيادة ارتباط مصر بدول المنطقة عن طريق الاتفاقات المختلفة، التى لا ترقى لمستوى الأحلاف ... مع استمرار الثوابت فى السياسة المصرية، التى بدأتها منذ ثورة يوليو 52، بأن تكون لمصر علاقات متوازنة مع كل الاتجاهات، كل فى إطار خدمة المصلحة العليا والقومية للبلاد ... والتى يديرها حالياً، وبكل براعة، الرئيس عبد الفتاح السيسي. إن المستقبل الواعد لمصر فى المستقبل القريب، مرهون بتضامن جميع قوى الشعب المصري، من أجل الحفاظ على الأمن القومى للبلاد. لمزيد من مقالات لواء أ. ح. د. م. سمير فرج