المشكلات تتضح عادة من المقدمات، لذلك بمجرد أن تضع إحدى قدميك فى عربة من عربات قطار القاهرة المناشى قاصدا محطة « البريجات «إحدى أكبر قرى محافظة البحيرة وأسوأها حالا على الإطلاق،سوف تدرك فورا جزءا كبيرا من روح التسيب واللامبالاة تجاه أكثر من ستين ألف مواطن، ملامح الصورة الفوضوية ستكتمل فى ذهنك تدريجيا عندما تصل بسلامة الله إلى القرية التى تطل على نهر النيل فرع رشيد، ومع ذلك يتعامل معها المسئولون على أنها قرية منسية فى قلب الصحراء أو وسط الكهوف الجبلية، الأهالى يستغيثون ويشتكون وبأموالهم يجودون، يدفعون تبرعات أملا فى الخدمات، ولا يجدون سوى الوعود.. فلا شىء يتحقق من التصريحات. فقط الملاحظة الشخصية ستقودك إلى أخطر وأهم مشكلة دخلت أخيرا مرحلة الإنذار بحدوث كارثة، بعينيك المجردتين ستلاحظ أن كل حوائط البيوت والبنايات كأنها مبللة بالماء، وإذا اقتربت منها تزكم أنفك رائحة رطوبة عفنة تملأ المكان، هذا بالنسبة لخارج البيوت فما بالنا بالداخل كيف يكون الحال ؟ كانت «عائشة رضوان» أول من استضافتنا، وأصرت على أن نجوب كل غرف البيت، لترينا الأطفال الذين يصابون بالبلل إذا تلاصقت أجسادهم بالحائط، لذا فكل الأسرة بالبيت موضوعة بعيدا عن الحوائط، البلل ليس كل ما فى الأمر فهناك الأمراض الصدرية والجلدية، وكما تقول: على طول العيال عيانين وتعبانين لأن البيت أرض وحوائط بينشع مية مجارى ! مشكلة عائشة ليست مشكلة فردية فكل أهالى القرية، بسطاء أو ميسورى الحال، يعانون نفس المشكلة، لأن القرية كما تتدخل فى الحوار عجوز تجلس على سلم حجرى أمام بيتها اتبنت من غير تخطيط ولا تنظيم وماعملوش لها مواسير عشان المجارى فكل بيت كان بيصرف على »طرنش« ومن سنين »الطرنشات« فاضت بميتها والحيطان شربت منها وناس كتير بيوتها بتقع والغلابة ما بيقدروش يعملوا حاجة أما المقتدرون بيعلوا دور تانى وتالت عشان يبعدوا عن النشع. قبل أن يحل الغروب ستلاحظ حركة كثيفة لجرارات بمقطورة تجوب شوارع القرية هنا وهناك، وتدخل بصعوبة للأزقة الضيقة والحارات، وهنا تتصاعد رائحة كريهة للغاية سببها قيام سائقى هذه الجرارات بعملية نزح »الطرنش« وشفط محتوياته لقاء مبلغ مالي، وهو الأمر الذى يتكرر بصورة دورية ويكلف الأهالى ميزانية إضافية إلى جانب ميزانية العلاج، أم محمد قالت: «بادفع خمسين جنيها للجرار فى الأسبوع، ولو مادفعناش مايرضاش ييجى والبير يطفح ونضطر نملأ ونكب فى الشارع وإلا البيت يغرق بالمجاري، ساعات والله بنوفرها من لقمة العيال، وكمان بنشيل على راسنا ميه الغسيل والحموم ونكب فى الترعة عشان البير مايتملاش بسرعة وفى بيوت تانية بتنزح مرتين فى الأسبوع. والأخطر أن هذه الجرارات التى تعمل ليلا كالخفافيش تصب كل مخلفات »الطرنشات« القذرة فى ترع المياه. الجهود الذاتية «عارفين إن الحكومة عليها أعباء كتير فقلنا نساعد ونجمع من بعض علشان ندخل الصرف الصحى القرية بالجهود الذاتية» .. كان هذا رد الحاج عبد الباسط محمد مرسى على المعاش عندما سألناه عن حلول للمشكلة،موضحا أنهم جمعوا مبلغا كبيرا كان كافيا لشراء قطعة أرض مساحتها ثلاثة فدادين ونصف فدان، وهى كما قيل لنا مساحة كافية لإقامة محطة للصرف الصحى ، ورغم مرور عدة سنوات على شراء الأرض واستعدادنا لوضعها تحت تصرف المسئولين،إلا أن وعودهم ومعها وعود نواب البرلمان المتكررة تتبخر كلها فى الهواء، ومع ذلك فأهالى القرية لديهم الاستعداد لجمع تبرعات مرة أخري،إذا لزم الأمر، فالجميع يريد أن يرى خلاصا من »الطرنشات« وعذابها ورائحتها وأمراضها. ثعابين وفيروس سى ! المشكلة ليست مجرد صرف صحى فقط يقول أشرف حسن خليل فالقرية بصفة عامة تعانى من ارتفاع منسوب المياه الجوفية، لأنها تقع بين الرياح البحيرى ونهر النيل، ومع تفاقم مشكلة تسريبات »الطرنشات« أصبحت البيوت وكأنها عائمة على الماء، وبمجرد حفر عمق 20سم فى الأرض تطلع المياه، وهناك بيوت قام أصحابها بردم الدور الأول منها تماما، وبصفة عامة نحن قرية منسية فى كل الخدمات، واسألوا أى مسئول عن إحصائيات بعدد المصابين بفيروس سى والفشل الكلوي، ويكمل: هناك إهمال شديد فى الخدمات الصحية والقرية بأكملها لايوجد بها سوى وحدة صحية والطبيب «النوبتجي» إما موجود أو غير موجود، وكثيرا مايتعرض البعض لاصابات طارئة كلدغ الثعابين التى تنتشر بالزراعات ولا يجد من يسعفه، وهناك حالات وفيات كثيرة بلدغ الثعبان، لأن المصل غير موجود بالوحدة الصحية ولا حتى مصل الكلب، وأقرب مستشفى لنا بمنوف يبعد حوالى أربعين كيلو، أما المستشفى الذى نتبعه إداريا فهو مستشفى كوم حمادة ويبعد عنا حوالى ستين كيلو. من وإلى النيل المشهد المعتاد فى القرية لفتيات ونساء يحملن فوق رؤوسهن أوانى كبيرة، بها مياه شرب نقية يحصلن عليها من وحدة تنقية مياه تابعة لإحدى الجمعيات الخيرية، والتى أقامتها خدمة لأهالى القرية وكبديل لمياه الحنفيات، التى لا تصلح للشرب، وكما علمنا أن شبكة مياه الشرب قديمة ومتهالكة ولم تجر عليها أى عمليات صيانة أو إحلال وتجديد منذ سنوات بعيدة، مما يضع احتمالات بتسرب مياه »الطرنشات« إليها، وإما يحملن الأوانى لغسلها فى مياه النيل، أو مياه الاستخدام المنزلى لسكبها أيضا فى النيل. ومن الغرائب أن هناك محطة لتنقية مياه الشرب تم إنشاؤها وإفتتاحها رسميا قبل سنوات بعزبة عز الدين ولم تعمل للآن وأصبحت مهجورة رغم تكلفتها العالية. عصور الظلام لأننا تركنا الأهالى يفتحون قلوبهم الملأى بالأوجاع والهموم، فكان غياب الوجود الشرطى نهائيا أمرا يزعجهم، فمن الطبيعى أن تكون هناك نقطة شرطة بالقرية لأى محاضر أو بلاغات أو مشاجرات، ولكن هذا غير موجود، وبالتالى عندما حدثت واقعة الثأر الشهيرة التى هزت مصر كلها قبل عدة أشهر عندما قام شاب بقتل ابن خالته فى عزبة عز الدين التابعة للبريجات بسبب خلاف على الميراث، فما كان من شقيق القتيل إلا أن شنق قاتل شقيقه بعد أن قام نفر من أقاربه وأصحابه بالامساك به وربطه بعامود إنارة، حتى جاء ولف الحبل حول رقبة القاتل وسط صيحات وتكبيرات الواقفين فى مشهد من مشاهد الغابة وعصور الظلام، التى يغيب فيها تماما أى عنصر أمن ولو «عسكرى واحد» وهو ما جعل القرية الهادئة تبدأ فى دخول نوعية جديدة من الجرائم، منها نصاب البحيرة الذى جمع ملايين وهرب، وانتشار ظاهرة تعاطى وترويج المخدرات جهارا نهارا، وآخرها ظهور حالات اختطاف لأطفال صغار. خطرالمعدية حلم آخر من أحلام أهالى البريجات الذى رفعوه أكثر من مرة لأكثر من محافظ للبحيرة، آخرها فى 2012 حيث قرر المحافظ مخاطبة وزير النقل بضرورة إنشاء كوبرى علوى أعلى الرياح البحيرى الذى يشطر القرية لنصفين، مما يجعلهم يعتمدون على المعديات البحرية كوسيلة غير آمنة طبعا للانتقال بين جانبى الرياح، مما يخدم بقوة المواطنين وحركة الاستثمار الزراعى وحركة النقل أيضا، وكذلك إنشاء كوبرى للمشاة، ولم يسمع أو يرى أهالى القرية شيئا عن الكوبرى بعد ذلك. الزراعة أو البطالة المهنة الرئيسية لأهالى البريجات هى العمل بالزراعة، ولكن هذا لمن يمتلكون أرضا، أما بالنسبة لخريجى الجامعات فالأمر مختلف، يقول حامد توفيق التلواني: حصلت على ليسانس حقوق وليس أمامى سوى العمل بمصانع مدينة السادات، إلا أنها أغلقت مؤخرا أبوابها فى وجه شباب القرية، مشترطة أن تكون إقامتهم بنفس المدينة أو بمحافظة المنوفية، مع أننا الأقرب ، ولذا فكثير من شباب القرية متعطل عن العمل ولا بديل سوى الهجرة للقاهرة ! نعود لنستقل نفس القطار، خط المناشي، الذى يربط محافظاتالقاهرة والجيزة والمنوفيةوالبحيرة، نوافذه تجمدت أقفالها من صدأ شديد يعلوها، وأبوابه المفتوحة، وعرباته التى تهتز كأنها ستغادر فى أى لحظة قضبانها، هى آخر مشاهدنا بقرية من قرى مصر المنسية التى تطمع فى أن تجد مسئولا يتذكرها ولكن بشكل حقيقى وعملي، لا مجرد تصريحات.