أكتب لأن القص مغامرة. أحيانا تأتي صديقة لتقول لي:اسمعي حكاية هذه المسكينة تصلح لأن تستوحي منها رواية« وتشرع في سرد مآسي الفتاة منذ ولادتها الى مماتها، فهي ولدت لأم وحيدة توفى زوجها مبكرا، وحين تزوجت الأم مرة أخرى، طرد الزوج الجديد البنت الى الشارع، فتلقفها أولاد الحرام، ثم انقذها محسن عجوز فتزوجها عرفيا، ولم تمض سنة حتى مات دون ان يترك لها إرثا، وكأن المآسي لا تأتي فرادا، فقد أصيبت بمرض مميت، ولم تجد العلاج، فماتت على باب المستشفى. وأصرت صديقتي على أن هذه قصة تستحق التسجيل وإلا فأي مأساة أخرى أجدر بذلك؟ وكأن كتابة قصة هي تسجل سيرة حياة في (ديوان المظالم). المآسي أو ما اصطلحنا أن نسميه كذلك، كثيرة من حولنا، نشهدها ونهتم بها احيانا، ونلعن حظوظنا بسببها، وأحيانا أخرى نمر بها مرور الكرام، او حتى نرتكبها دون أن ندري.تمشي في الشارع ، فتزاحمك أغصان شجرة ممتدة، فتكسر أحد الأغصان الذي كاد يخز عينيك، وتستمر في سيرك غير آبه، ولكن الشجرة سوف تتألم لفقدان غصنها. كلبة ضايقتك أمام دارك، تسأل أحد المشايخ فيقول لك »قتل الكلاب حلال، خاصة إذا كان لونها أسود«. تأتي لها بالسم وأنت مرتاح الضمير. تتخلص منها، شاعرا بالانتصار، ولكن ليس صغارها الذين ينتظرون عودتها لترضعهم، تحت ثلة من الأشجار البعيدة، ستكون أمامهم أيام سوداء طويلة يرتجفون فيها جوعا وبردا وخوفا. طفل يلعب على ساحل بحر، تصرخ به أمه »تعال هنا، لاتوسخ ملابسك«. ولكنه لايأبه بها، فهو يكتشف لأول مرة في حياته أن مزج الماء والرمل، يصنع طينا، يمكن ان يشكل منه قصورا وأشياء أخرى يحلم بها. تجلس مجموعة من الصديقات في حديقة النادي، يبدأن الحديث بالسؤال عن الملابس »هذا البنطلون جديد؟« »هناك تخفيضات كبيرة هذا الموسم« وينطلقن في مقارنة اوكازيون هذا المحل بذاك، ويجري الاتفاق بين بعضهم على الذهاب في اليوم التالي الى المحل للحاق بآخر يوم من تخفيض الأسعار. ثم حين يضعن وجبات الطعام على منضدة النادي، يبدأن في وصف طرق الطبيخ. وقد يناقشن آخر مستجدات الأحداث في البلد (ويقصدن ماكتب عنها على الفيسبوك) ويحتدم النقاش. ولكن لا تفكر إحداهن، وهن جالسات في حديقة، في مراقبة انعكاس ضوء شمس الغروب على وريقات الشجرة التي تظلل جلستهن، ولا مراقبة طائر الهدهد وهو يتقافز على الأرض ملقطا ما يجده من فتات الطعام، ولا كيف ترصده تلك القطة الصغيرة بحذر، وهي تمد ذراعا متحفزة للوثوب ثم ترجعها حين يطير الهدهد متوجسا. هذه ليست مما تثير اهتمام الصديقات المتحلقات على منضدة تزدحم بالحقائب وبقايا المأكولات، واكواب الشاي الفارغة، وفتات الأحاديث المتناثرة. مثل هذه اللمحات التي لاتثير في أحيان كثيرة اهتمام الناس المنغمسين في معارك الحياة، هي ما أستهلم منها كتاباتي. أنقل لكم فيها ما غفلت عنه حواس البعض لشدة انهماكهم بأحوالهم الخاصة. وأعتقد أن هذه هي وظيفة خالق القصة، أن يبدع قصة حين تنتهي من قراءتها، تدفعك للتفكير بطريقة مختلفة، أو في أشياء لم تخطر على بالك ، وربما تقول في نفسك »كيف فاتتني هذه الفكرة؟« مع أنها بسيطة وفي متناول اليد؟ أو تساعدكم القصة على تغيير مساراتكم في الحياة أو فهم أنفسكم أكثر، وبالتالي تحقيق ما كنتم تريدون فعله ولاتعرفون كيف. القصة ينبغي ان تفتح لكم أبوابا جديدة للمغامرة، والمغامرة في رأيي هي (التفكير في غير المألوف والمتعارف عليه) وهو ما أعنيه في الكلمة التي كتبتها على ظهر (كتاب المغامرات) الذي جمعت فيه أعمالي القصصية الكاملة، حتى الآن (من 1974-2015) في مجلدين، والتي أشرح فيها سبب اختيار هذا العنوان: لو سئلت لماذا أكتب، أقول: أكتب لأخلق عوالم جديدة فيها كائنات أتحكم في مصائرها، وأحدد مساراتها، ولكن أحيانا تفلت مني فتكتب هي نهاياتها، فالكتابة مغامرة ، والحياة مغامرة، والموت مغامرة. وهذا كتاب المغامرات. كاتبة قصة ومترجمة عراقية تقيم في مصر. لمزيد من مقالات بثينة الناصرى