من السمات غير الحميدة لقيادتنا الإدارية، كما للمصريين جميعا، أننا لا نملك ذاكرة تستوعب تجاربنا السابقة الفاشلة أوالناجحة لاستنتاج النتائج والدروس منها. وبرزت بشدة تلك السمة في معركة قانون الخدمة المدنية. هذه القيادات نسييت، عند بداية وضعها لمشرع القانون، ثلاث حقائق أجدها مهمة، كانت الأولى عندما لم تدرس هذه القيادة تجاربنا السابقة في محاولات الدنو من الجهاز الإداري، ثم الثانية عندما لم يكلفوا خاطرهم لفهم سيكولوجية هذا الهيكل الكبير الذي هو بالفعل أكبر الكيانات المصرية عددا وأقدمها تاريخا وأكثرها فاعلية وقدرتها على إستيعاب بل وابتلاع كل محاولات الدنو منه، والثالثة عندما تناست هذه القيادات التغيير الحقيقي الذي أحدثته ثورة 25 يناير وهو أن المواطنين لم يعودوا يقبلون ما يفرض عليهم بشكل فوقي. من هذه التجارب السابقة والفاشلة كانت تجربة عام 1963 عندما أعلن جمال عبد الناصر توجهه الهادف إلى هز الجهاز الحكومي، بحيث يتخلص هذا الجهاز من (بيروقراطيه ومحسوبيته وفساده). وقال قولته الشهيرة (معقول ننجح في تسيير قناة السويس ونفشل في إصلاح القصر العيني). وكان المصريون في ذلك الزمان أقل عددا كما كان الجهاز الحكومي أصغر حجما. ولما كانت إرادة عبد الناصر حقيقية وجادة فقد أسند هذه المهمة إلى رجل الإدارة القوى، السيد عبد اللطيف البغدادي. ثم رحل عبد الناصر كما رحل عبد اللطيف البغدادي وتغير النظام من مرحلة التحول الاشتراكي إلى نظام الرأسمالية التي تحاول الاندماج بالاقتصاد العالمي، ولكن استمر الجهازالحكومي كما هو يعاني من نفس المشاكل (البيروقراطية والمحسوبية والفساد). كما تزايد تعداد الشعب المصري وترهل الجهاز الاداري وارتفع عدد موظفيه إلى ستة ملايين ونصف. والمدهش في هذا القرار أن المصريين استمتعوا في تلك الفترة بعدد هائل من النكات التي أمتعتهم وأضحكتهم دون أن يهتز جهازهم الحكومي ودون أن نعرف على وجه التحديد ماذا حدث وماذا لم يحدث. ولكن المؤكد أننا لم نحلل منذ هذا الزمان السبب الحقيقي الذى أفشل القرار قبل البدء في تطبيقه. ولكن المفارقة أن في نفس هذه الفترة خرج من هذا الجهاز آلاف الخبراء القانونيين والإداريين لمساعدة البلدان العربية الحديثة الاستقلال للمساعدة في استكمال أجهزتها الإدارية والقانونية الحديثة كما خرج من الهيئة العامة للتأمينات خبراء وضعوا أساس نظام التأمين الاجتماعي في تركيا على سبيل المثال بالرغم من عدم مرور سنوات قليلة جدا على تنفيذ نظام التأمين على العاملين في القطاعين الخاص والعام المصريين. مفارقة قد تبدو غريبة ولكن يمكن فهمها الآن إذا حاولنا بشكل جدي دراسة تجاربنا السابقة. وكما ذكرنا أن هذا الجهاز هو أقدم الهياكل المصرية ذات العلاقة المباشرة بعموم الموطنين لأنه يقدم لهم كل الخدمات اليومية والحياتية التي يحتاجونها بدءا من مناوبات المياه التي تحتاجها الزراعة إلى تعليم الأبناء إلى توزيع السلع التموينية إلى استخراج الأوراق الرسمية من يوم الولادة إلى يوم الوفاة، وما بعدها كما أنه أكبر القطاعات استيعابا للعمالة بكل تخصصاتها وبالتالي إشباعا للأسر التي يرأسها الرجال أو النساء. لذلك لايمكن الدنو منه على أساس أن عدد العاملين به بلغ ستة ملايين ونصف المليون موظف وموظفة فحسب، ولكن لابد من الدنو منه على أساس أنه أقدم الهياكل الذي امتلك منذ نشأته، التي ربما تعود إلى لحظة ما توحدت الدلتا مع الصعيد، ثقافة وحالة اجتماعية خاصة به كهيكل وكعاملين تحكمهم درجات ومناصب وأجور ومناخ عام يحكمه المثل الشعبي إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه. خاصة في مناخ اجتماعي عام تأسس مع دخول المستعمر وسيادة إرادته بالحفاظ على «مصر بلد زراعي تعتمد إدارته على ادولة الموظفين. كما لابد أن ندنو منه على أساس أنه، إلى لحظتنا هذه، هو القطاع الاقتصادي الوحيد الذي يضمن استمرار الضمانات المعيشية، أي أنه القطاع الذي لا يفصل بسهولة وعندما يصل موظفوه إلى سن الستين يجدون معاشا يساعدهم على الاستقلال، بقدر ما يساعدهم على عدم مد أيديهم إلى الأبناء أوالبنات. هو (الستر) من بداية التعيين إلى ما بعد الإحالة على المعاش. حتى لو كان هذا الستر اعلى قد الحال. يبحث المواطن عن هذا «الستر» فلا يجده في قطاع اقتصادي آخر. فنحن نعلم جميعا أن شروط العمل اللائق الذي يضمن عقدا وتأمينات وعدم كتابة إستمارة الاستقالة كشرط للتعيين، تنتشر في القطاع الخاص. ويندر أن تجد وحدة قطاع خاص تطبق قانون العمل بتفاصيله رغم احتياجنا لتعديل هذا. فالخلل في سوق العمل وحرمان العامل أو الموظف من حقوق العمل اللائق يدفع المواطن إلى الالتحاق بالقطاع الحكومي رغم علمه بانخفاض الأجر وبالرغم من اللانظام في قواعده الإدارية الدنيا. وإذا انطبق هذاعلى الموظفين فإنه الإحساس الغالب للمرأة العاملة في هذا القطاع. حقيقة سائدة ليس فقط في مصر وإنما في كل دول العالم وخاصة في الدول المحافظة اجتماعيا كمصر. في الريف كما في صفوف الأسر المتواضعة الحال لا تأتمن الأسر المتواضعة اقتصاديا إلا على القطاع الحكومي لتوظيف بناتها. ويمكن تتبع هذه الحقيقة في تاريخ المرأة العاملة المصرية. أين بدأت ومتى تكاثر عددها؟ بدأت في قطاع الدولة، في التعليم والصحة. ثم زاد عددها على وتيرة عالية في القطاع العام. فالمواطن المصري اعتبر القطاع العام امتدادا للقطاع الحكومي الذي يحتضن بناته ولا يمسهم بخطر. لذلك تراجع عدد النساء العاملات عند تصفية القطاع العام أو خصخصته وتسريح عماله وفي مقدمتهم العاملات. والمعروف أن القطاع الحكومي هو القطاع الصديق للمرأة المقبلة لأسرتها. خلقت كل هذه الظروف ثقافة عامة تحكم بنية هذا الجهاز وتجعله حريصا كل الحرص من كل من يقترب منه بالرغم من رغبة العاملين فيه في التعلم والعمل وتحسين أدائهم. فليس صحيحا أن كل العاملين به فاسدون أو كسولون أو غير راغبين للتطوير. في كل جهاز إداري في البلدان المتقدمة تستمر إدارات العمل تدرب العاملين لديها بشكل دوري بحيث يلاحقون التطور ولا يصدأون. ويشمل التدريب الجميع مبتدئا بالمديرين منتهيا عند صغار الموظفين. وأفضل نموذج لذلك نذكره في بلادنا. في القديم كنا نتأفف من الدنو من مكاتب البريد، ولكن بعد تطويرها، في الريف وفي الحضر، وتدريب العاملين بها واتباع البعض من خصائص العمل اللائق بدأنا نقبل عليها ونرتبط بها بحيث باتت الآن أكبر وعاء ادخاري في مصر. بل بات سكان الريف يطالبون بزيادة عددها في القرى لأنها تتبع أسلوبا متواضعا يساعد الريفيين على اللجوء إليها لصرف تحويلاتهم أو لوضع مدخراتهم مهما صغرت. إذا لدينا تجارب. كما أن مسئولينا المتحملين لمسئولية وضع قانون الخدمة العامة نسوا أو تناسوا أنهم بدأوا العمل به ونفذوه بعد ثورتين كبيرتين في مصر. وأن أعظم القيم التي خرج بها المصريون من الثورتين هو أنهم لن يستمروا فى القول انعمب أو اموافقونب على كل ما يقدم لهم من تشريعات وقوانين واتجاهات وسياسات، إنما خرج المصريون من الثورتين وهم يطالبون بالحرية التي هي في الأساس حرية القول بنعم لكل ما يريدونه أو الاب للذي لا يقبلونه. إنهم يريدون المشاركة في صياغة مصيرهم ومصير اولادهم. وخاصة فيما هو متعلق بقوانين تمس حياتهم اليومية وخاصة تلك القوانين التي تمس أجورهم وساعات عملهم ومعاشاتهم وعلاواتهم. ولذلك لم نسمع أحدا من النقابيين أو القانونيين أو الخبراء من الفرادى أو في جماعات يرفضون القانون من حيث المبدأ. توافقنا على ضرورته ورضينا بأهدافه وكان نقدنا له منصبا على البعض من مواده. لكن الحكومة صممت على وضعه وتطبيقه قبل أن تتشاور مع الذين سيطبق عليهم. والحقيقة أن السيد الدكتور وزير التخطيط كان قد عقد عدة اجتماعات مع عدد من المنظمات النقابية وناقش معهم بنود اللائحة رافضا المساس بالقانون المملوء بالثغرات التي تعتبر خروجا على المواثيق الدولية، وبإجماعهم رفضوا الكثير من بنود اللائحة وحصلوا على وعد منه بإعادة المناقشة بهدف توسيع قاعدة المشاركة وعدم مواجهة المطبق عليهم بالأمر الواقع. لأننا لا نواجه مجرد أعداد من الموظفين ولكننا نواجه تراكما لثقافة تحكم جهازنا الإداري منذ تمحور دولة الموظفين، فكيف نبدأ؟ لمزيد من مقالات أمينة شفيق