ولد المؤرخ "نيقولا ميشيل", مدير الدراسات بالمعهد الفرنسى للآثار الشرقيةبالقاهرة, فى الدار البيضاء بالمغرب عام 1962 لأبوين فرنسيين . وعاش هناك الى عام 1976.. أى حتى بلغ 14 سنة. ولكن لاحقا قادته مسيرته البحثية والعلمية إلى تخصصه النادر فى تاريخ الريف المصرى خلال العصر العثمانى. وسرعان ما أصبح من أبرز المؤرخين المتخصصين بهذه المساحة التى نادرا ما يهتم بها دارسو التاريخ ، حتى من المصريين أنفسهم. وهو الآن يستعد لإصدار كتاب باللغة الفرنسية يجمع دراساته تلك بعنوان:" مصر القرى حول القرن السادس عشر ". وفى هذا الحوار مع "الأهرام" يروى " ميشيل " قصة تكوينه المعرفى والفكرى كمؤرخ مستشرق. كما تتكشف طبيعة وحدود الإضافات العلمية التى انتهت اليها أبحاثه ودراساته. ولابد أن أشير بداية الى ان ما قادنى الى التعرف على هذا المؤرخ الفرنسى هو سيمنار "قراءة وثائق التاريخ" الذى ينظمه شهريا مع المؤرخ الدكتور مجدى جرجس استاذ الوثائق بجامعة كفر الشيخ. وهو ملتقى يجمع مؤرخين ومثقفين مهتمين بالتاريخ المصرى فى رحاب المعهد الفرنسى بالمنيرة منذ مارس الماضي, علما بأن المعهد تأسس عام 1880 زمن الخديو توفيق, كما تفصح لوحة تذكارية رخامية عند مدخله . وقد ظل فريدا من نوعه فى المنطقة حتى تأسيس معهد فرنسى آخر فى دمشق عام 1924. وبعدها تحول معهد القاهرة المسمى اختصارا " الإيفاو" الى التخصص فى تاريخ مصر فقط منذ ما قبل التاريخ والى التاريخ المعاصر. كما لم يعد متخصصا فى علم الآثار وحده. فقد تعددت انشطته الى علوم اللغات والفنون والآداب, فضلا عن التاريخ. وتضم مكتبته النادرة فى مبناه الأثرى نحو 90 ألف كتاب ومجلد . وينشر فى المتوسط 20 كتابا وأربع مجلات سنويا . التاريخ ليس مجموعة حكايات وعلى عكس ما يذهب الظن فإن تعلم " ميشيل "للغة العربية لم يحدث فى المغرب. فقد كان وأسرته يعيشان فى بيئة فرنسية شبه مغلقة جلبتها الحماية على مراكش منذ عام 1912. وكان من مكونات هذه البيئة الخاصة المدارس الفرنسية. لكن سرعان ما استهوته اللغة والثقافة العربية عند انتقاله الى باريس, فدرس العربية بين عامى 2891و 1987 كى يتخصص فى تاريخ المغرب. وبدأت هذه الدراسة باللغة الفصحي. لكنه فى عام 1983 جاء الى القاهرة لدراسة العامية المصرية وليعمق معارفه بالفصحى أيضا. وبحلول عام 1986 التحق بالمعهد الفرنسى بدمشق كى يستكمل دراسة العربية الفصحي. كما درس هناك العامية الشامية. ولقد شغل المجتمع المغربى اهتمام " ميشيل " فى الماجستير والدكتوراه. فكانت رسالته العلمية الأولى عن تاريخ الأوبئة والمجاعات فى مغرب (مراكش ) فى القرن الثامن عشر. وناقشها فى عام 1986. أما رسالة الدكتوراه فكانت عن الاقتصاد الريفى فى المغرب قبل عصر الحماية الاستعمارية ( أى فى القرن التاسع عشر ) . وناقشها بدورها فى عام 1994. لكن قبل المناقشة بعام واحد جاء الى مصر للمرة الثانية. فقد عينه المعهد الفرنسى بالمنيرة باحثا. وهكذا بدأ دراساته عن مصر العثمانية. ويحتل المستشرق الفرنسى "جاك بيرك "(1910 1995) مكانة مميزة فى ذاكرة مؤرخنا. لكن ثمة رافدا معرفيا آخر فى تكوين هذا المؤرخ الفرنسى يحدده فى علماء ومهندسى الزراعة فى المغرب .وهنا يضيف قائلا:" حتى عقد الثمانينيات من القرن الماضى كانت المناطق الريفية بالمغرب لم تشملها التغيرات الكبرى اللاحقة .كانت أقرب الى حال البلاد فى القرن التاسع عشر. ولقد تعرفت على العديد من المتخصصين فى الزراعة هناك .وهؤلاء تركوا آثارا لا تمحى فى تكوينى. كانوا على إطلاع واسع بتاريخ القرى والمناطق والقبائل. وبالقطع هم لم يكونوا مؤرخين .لكننى اعتبرهم من المهتمين بالتاريخ وبشكل حيوى ونابض". وعن الأساتذة يشير " ميشيل " الى أنه تتلمذ على مؤرخين مغاربة أعلام مثل"عبد الإله السبتى"و"عبد الرحمن المؤدن"و"عبد الحميد التريكى", يقول:" كان لهؤلاء الثلاثة أثرهم البالغ فى تكوينى العلمى والمعرفى الى جانب المتخصصين فى الزراعة بالمغرب .لكن أبرز أساتذتى فى فرنسا هو أندرية ريمون. فقد اشرف على رسالتى للدكتوراه". وعلما بأن" ريمون" اشتهر بمؤلفاته عن مصر العثمانية وبكتبه المترجمة الى العربية عن حرفيى وتجار مدينة القاهرة فى القرنين السابع والثامن عشر". ويؤكد "ميشيل": "أعتقد ان أندريه ريمون هو بمثابة الأب للمؤرخين الفرنسيين الذين درسوا وتخصصوا فى مصر العثمانية .وحقا.. نحن كلنا ابناؤه وأحفاده" ويقول : "أشرف على رسالتى عن الريف فى المغرب. لم يكن متخصصا بأى حال فى تاريخ هذا البلد. لكن منهجيته كانت بالغة الأهمية. وهو مشرف أكاديمى لامثيل له". ويضيف:" عندما بدأت ابحاثى عن تاريخ مصر وأنا فى القاهرة التقيت بنخبة متميزة من المؤرخين المصريين وبخاصة فى سيمنار التاريخ العثمانى بجامعة القاهرة. أذكر من بينهم الراحل الدكتور رءوف عباس والدكتورة نيللى حنا والدكتور محمد عفيفى. ثم تعرفت بجيل أصغر سنا من بينهم الدكاترة مجدى جرجس و ناصر إبراهيم وحسام عبدالمعطى.أما بالنسبة للمؤرخين الفرنسيين من جيلي, المتخصصين فى مصر, فثمة العديد من الأسماء, من بينها جيلان ألون. وهؤلاء لديهم كتابات عن مصر فى العصر العثمانى حتى القرن التاسع عشر". ولع بالأرشيفات لكن كيف انتقل "نيقولا ميشيل" باهتمامه البحثى من تاريخ المغرب الى تاريخ مصر؟ .هنا يجيب: " ربما كان الأمر محض صدفة. فقد اقترحت صديقتى كاترين مايور ان اذهب للعمل بالقاهرة فى المعهد الفرنسى ( إيفاو). وحقيقة عندما أوشكت على الانتهاء من رسالة الدكتواره لم يكن لدى أى خطط للعمل، ولم أكن أعرف ماذا سأفعل بعد. حتى إننى لم أكن أعلم هل سأستكمل دراساتى عن المغرب أو فى حقل المجتمعات الريفية فى أماكن أخرى؟. لكن فرصة العمل جاءت هنا من القاهرة. وهكذا عشت الى الآن 22 عاما التصقت خلالها بدراسة تاريخ مصر العثمانية". لكن ألا توجد دوافع ذاتية لدارسة تاريخ المجتمع الريفى فى مصر ؟ هنا يقول "ميشيل": " اعتقد أن عندى دافعين: الأول هو اهتمامى بالمجتمعات الريفية خاصة فى العصر قبل الصناعى. والثانى اننى أحب العمل على الأرشيفات . وهذا ولع شخصى. ولقد اكتشفت بأن المغرب تتوافر به ارشيفات للقرن التاسع عشر فقط. ولا توجد وثائق أرشيفية لما قبله . هذا بعكس الحال فى مصر, حيث تتوفر أرشيفات منذ القرن السادس عشر وبطول الفترة العثمانية. وهكذا بدأت بقراءة السجلات والدفاتر فى دار الوثائق بالقاهرة, وكذا أرشيفات فى إسطنبول بتركيا. وفى القاهرة تكتسب دفاتر المالية وسجلات المحاكم الشرعية أهمية للمؤرخين. أما فى اسطنبول فهناك أنواع عدة من الدفاتر, كالحسابات و"الشئون المهمة"، والأخيرة توثق مراسلات وأوامر الديوان العالى (السلطان). والحقيقة ان أرشيفات اسطنبول ضخمة, وتلك المتعلقة بمصر لم يتم دراستها جيدا. ولهذا تعلمت اللغة العثمانية وكذا التركية الحديثة, ببساطة لأننى اكتشفت انه لايمكنك ان تفهم مصر العثمانية جيدا دون دراسة هذا الاطار العثمانى العام. وبالقطع فان من إشكاليات دراسة تاريخ مصر العثمانية هو ان نفهم كيف كانت مصر عثمانية". نتائج دراساته والسؤال هنا ماهى أهم النتائج والاستخلاصات عن الريف المصرى التى توصل اليها "نيقولا ميشيل". وللإجابة يقول: " ركزت فى ابحاثى وفى نحو 12 مقالة علمية على الملكية الزارعية والاقتصاد الريفى. وعن طريق هاتين المسألتين درست بنية المجتمع والسلطة فى القرية والعلاقات بين القرية والسلطة المركزية. أما عن النتائج فأبرزها ثلاث: الأولى ان السائد عند المؤرخين ان الريف المصرى لم يعرف ملكية الأراضى ملكية خاصة فى العصر العثمانى وان السلطان ظل مالكا للأرض. لكن اتضح انه مع نهاية هذا العصر نشأ نظام جديد اسمه ( الأثر ). وكان يعنى ان الفلاحين لهم حقوق توريث الأبناء والبيع بعد موافقة الملتزم. وهذا النظام يعد قريبا من نظام الأراضى فى الأناضول والبلقان مركز الدولة العثمانية. ولقد اوضحت دراساتى ان هذا النظام حل بمصر فى القرن الثامن عشر. والنتيجة الثانية هو اكتشاف معنى جديد لكلمة "الفلاح". لقد كانت معانى هذه الكلمة ودلالاتها تقتصر على هذا الذى يزرع ويسكن فى القرية ولا يتمتع بكثير من الثقافة, كما كان الفلاح بالنسبة للعربان يعنى المصرى غير البدوي. وهذه المعانى تعود الى العصر المملوكى وامتدت الى بدايات العصر العثمانى. وحتى فى عهد محمد على باشا كان يطلق على المصريين "فلاحين". وما توصلت اليه أن دفاتر المالية فى القرن السادس عشر تقدم قوائم لفلاحى كل قرية. ولاحظت ان عدد هؤلاء قليل جدا بالنسبة لبقية سكان القرية. وهذا لأن الفلاحين بالمعنى الإدارى المقصود يعنى انهم المسئولون عن دفع ضرائب القرية . أى انهم اغنياء ومسئولون عن جمع الضرائب فى نطاق قريتهم. وهكذا يتضح ان الفلاحين تعنى أعيان القرية وليس فقراءها. وهذا قبل أن يصبح لكلمة فلاح معنى عام وشائع يتخطى هذه الحدود". أما النتيجة الثالثة التى توصلت اليها دراسات "ميشيل" فتتعلق بعلاقة السلطة المركزية بالقرية . وهنا يقول: "فى العصرين المملوكى والعثمانى لم يكن هناك إدراة محلية وموظفون محليون. كان يحكم الأقاليم ولاة عند المماليك و كشافون عند العثمانيين. وبين القرية وكل من الوالى والكاشف لم تكن هناك أى درجات او مستويات من الادارة أو جهاز ادارى. وهذا هو حال الغربية مثلا, حيث كان هناك نحو 300 قرية . وهذا النظام يعتمد على ثقة كبيرة من السلطة المركزية بأعيان القرى. وهكذا كان النظام شديد المركزية من جانب و شديد المحلية على الجانب الآخر. ولم يكن المركز يتدخل كثيرا وعميقا فى شئون القرية. ويمكن القول بانه كان هناك نوع من الإدارة الذاتية, لكن القائمة على استلهام ومشروعية أعراف من قديم الزمان. إلا ان التحولات التى عرفتها البلاد لاحقا مع العصر العثمانى جلبت ملتزمين أقوياء لهم نفوذهم على القرية. وهذا التحول طرأ نحو 1700 ميلادية. وكل أبحاثى تثبت أن القرى فى مصر توافرت على بنية قوية جدا". وسألت "ميشيل" عن الاستشراق وكيف يحدد هو علاقته بمدارسه فأجاب: "المستشرقون هم باحثون غربيون يدرسون المجتمعات الشرقية. لكنى لا أرى أن هناك مدرسة استشراقية. فقط هناك مستشرقون فى عيون الشرقيين. وأنا اعتقد ان المؤرخين يتأثرون بتطور التاريخ كعلم. وهم يتأثرون بتيارات العلم كافة فى العصر الذى يعيشونه. وهنا تكتسب المنهجية والمصادر أهمية كبيرة . ولكى يفهم المؤرخ المصادر عليه ان يتعرف على وجهة نظر كاتب هذه المصادر. وأيضا لأن كل مصدر يحتوى فى داخله على وجهة نظر المؤلف ووجهة نظر الجمهور الذى جرت كتابته لأجله". وعندما سألت المؤرخ "نيقولا ميشيل" عن فرص ترجمة أعماله المنشورة بالفرنسية الى اللغة العربية قال وهو يبتسم : "هذه مهمة المصريين". وصمت لبرهة ثم أضاف :"اسألهم".