تواجه مصر فى الوقت الراهن تحديات عديدة على الصعيدين الاقتصادى والاجتماعى منها محدودية الموارد وزيادة معدلات الفقر وتعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء والزيادة السكانية المطردة وتضخم الجهاز الإدارى للدولة وغير ذلك الكثير من التحديات التى تواجه التنمية الشاملة والمستدامة وتحقيق العدالة الاجتماعية. ورغم ضخامة هذه التحديات فثمة تحد آخر لا يقل أهمية ألا وهو التحدى المتمثل فى تجاوز الفجوة العلمية والتكنولوجية التى تفصلنا عن العالم وعن دول عديدة فى الإقليم حيث أصبح العلم والتكنولوجيا فى الدول المتقدمة قوة إنتاجية ويشغلان معا حيزاً كبيرا من الناتج القومى الإجمالى فى تلك البلدان ولن تستطيع مصر إنجاز أهداف نهضتها وبناء مستقبلها ما لم يكن تطوير العلم والتكنولوجيا بندا ثابتا فى الأجندة الوطنية للتنمية والنهضة خاصة بعد إقرار الدستور المعدل بتخصيص نسبة من الناتج القومى الإجمالى للإنفاق على البحث العلمى قابلة للزيادة. ويستلزم هذا الأمر الوعى بمجموعة من المبادئ التى ينبغى أن تشغل أذهان الجماعة العلمية الوطنية فى مقدمة هذه المبادئ أن العلم يؤثر فى المجتمع بقدر ما يؤثر المجتمع فى العلم، ذلك أن العلم منوط به تلبية حاجات المجتمع للتطور وصياغة وتوفير حلول علمية للمشكلات وبالمثل فإن العلم لكى يؤدى وظيفته ينبغى أن يتحصل على مساندة مجتمعية وسياسية لكى يفرض سلطته وقواعده فى المجتمع، يلى ذلك البحث فى المعوقات التى تحول دون أداء العلم لدوره ووظيفته فى المجتمع مثل المعتقدات والتمثيل الرمزى السائد وانتشار الثقافة ما قبل العلمية وغلبة نمط التفكير البدائى، الذى يعزو الظواهر والمشكلات إلى أسباب غير مفهومة وتخالف واقعها، ذلك أن العلم يستند إلى ركائز العقلانية والمنطق وهما مفتقدان فى النمط الغالب للتفكير السائد. أما ثالث هذه المبادئ فإن العلم والتكنولوجيا ليسا مجرد معرفة وفهم مجرد بل تحول فى العالم المعاصر إلى قوة إنتاجية مادية ملموسة تظهر فى المؤشرات الإحصائية المتعلقة بالناتج القومى والدخل المتوسط فى العديد من الدول المتقدمة. ولا شك أن الجماعة العلمية الوطنية لن تكتسب هذه الصفة إلا إذا تحققت لها شروط معينة من بينها الاتصال والتفاعل مع الجماعات العلمية المختلفة فى العديد من البلدان وتبادل الآراء والمعلومات بصدد المشكلات المتشابهة وكذلك القدرة على الإنتاج العلمى المعترف به وطنيا ودوليا، والقدرة على تنظيم المؤتمرات العلمية والمشاركة فى المؤتمرات العلمية الدولية. ولن تتمكن الجماعة الوطنية من التوافق مع هذه الشروط دون انخراط جهودهم وبحوثهم فى إطار مؤسسى وتنظيمى فى الجامعات ومراكز البحوث والجمعيات العلمية يحظى بدعم سياسى واضح من الدولة والمؤسسات الوطنية التى تضع سياسات العلم، ذلك الإطار الذى يضمن ويؤمن تطور نمط وطنى للعلم وهوية وطنية يمكنه من مواكبة حاجات التطور وخلق تقاليد مختلفة للتخصصات العلمية والمعرفة والبحث. تتحدد مهمات الجماعة الوطنية العلمية فى اضطلاعها بمسئولية الكشف عن الاحتياطى العلمى القائم فى المجتمع وتحويله إلى حيز الممكن والعطاء الفعلى، أى أن تدفع هذا الاحتياطى للنشاط والفاعلية وتجذبه للانخراط فى الحقول العلمية المختلفة ويعنى ذلك جذب الموهوبين وذوى القدرات الابتكارية إلى النشاط العلمى والإنتاج. من ناحية أخرى فإن الجماعة الوطنية العلمية يجب أن تتكفل بصياغة كيفية الربط بين الصناعة والإنتاج وبين البحوث العلمية والتطبيقية فى المجالات المختلفة وتخصيص المنح والحوافز لحل بعض المشكلات المطروحة فى هذا السياق. يصف المتخصصون فى سياق نشأة الجماعات العلمية تشكل هذه الجماعات ونموها وتطورها بنموذج الشجرة والفروع التى تتمحور حولها، فهذه الفروع فى حالة الجماعة العلمية هى بمنزلة حقول ونظم معرفية جديدة ومناطق للبحث لم تكن مطروحة من قبل، تماما مثل شجرة العائلة التى تحتفظ للعائلات بجذورها وتفرعاتها، ونموذج الجماعة العلمية يستهدف خلق أجيال جديدة من العلماء والباحثين المتخصصين فى الحقول المعرفية المختلفة وأن تشكل هذه الأجيال مصادر لدعم الاستراتيجية العلمية وتطوير فاعليتها فى المجتمع وتكون مهمة هذه الأجيال المراجعة والتحليل والتشخيص للظواهر والأحداث الجديدة واكتشاف المشكلات والحلول وطرق أبواب جديدة للمعرفة وتحديد مجالها واستشراف مستقبلها والمستوى المأمول لتطورها، بالإضافة إلى ذلك تأمين مهمة الاستمرار والتواصل بين مختلف أنشطة الجماعة العلمية. ولن تستطيع الجماعة العلمية تأدية هذه المهام المختلفة إن فى مجال تطوير نفسها أو تطوير المجتمع وتلبية حاجات تطوره دون أن تلقى المساندة السياسية والمعنوية والمادية من الدولة، إذ يجب على الدولة أن تخصص المزيد من الدعم المادى والموارد المالية للبحوث العلمية والتطوير وتأمين الاستقلال للمؤسسة العلمية الوطنية فى وضع برامجها وبحوثها وتخصيص مناطق ومنظمات لبحوث الابتكار والتطوير تضم الموهوبين والمخترعين من شباب العلماء والباحثين على غرار ما هو متبع فى العديد من البلدان المتقدمة وأن تدفع الدولة بالمؤسسات والهيئات والشركات لاحتضان الموهوبين والباحثين وتخصيص قدر من المنح والحوافز لتشجيع البحث والابتكار والتجديد. بالإضافة إلى ذلك يمكن للدولة أن تحرر المؤسسة العلمية الوطنية من قيود البيروقراطية وأن تطلق لهذه المؤسسة حرية وضع المعايير والقواعد التى تكفل لهذه المؤسسة الحيوية والمرونة والقدرة على التلاؤم مع احتياجات البحوث والتطوير واحتضان المواهب الشابة والمخترعين الجدد وتعهد هذه المواهب بالرعاية العلمية والمادية. إن العلم والتكنولوجيا هما عماد أى نهضة ويمثلان طاقة إبداعية وإنتاجية جديدة ومتجددة يمتد عائدهما إلى كل القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية وغيرها وفضلا عن ذلك فهما يسهمان فى نشر الثقافة العلمية والعقلانية الضروريين لمتطلبات النهضة الشاملة الثقافية والعلمية. إن فتح صفحة جديدة فى مجال تطوير البحوث العلمية والتكنولوجية مهمة لا غنى عنها فى المرحلة الراهنة حتى يمكن لمصر تجاوز التخلف وتوفير شروط إقلاع التنمية فى كل المجالات. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد