البورصة المصرية تخسر 90 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    بنك مصر يرعى الاتحاد المصري للتنس للعام الخامس على التوالي    أستاذ جامعي: إصلاح التعليم يتطلب تخفيض أعداد المقبولين بكليات الآداب والحقوق والإعلام والتجارة    خلال زيارتها لمصر.. مايا مرسي تستقبل قرينة رئيس دولة البوسنة والهرسك    هل تنخفض أسعار المقررات التموينية خلال مايو ؟.. «التموين» تُجيب    توريد 77283 طن قمح في كفر الشيخ    رئيس وزراء مصر وبيلاروسيا يشهدان مراسم توقيع اتفاق بين البلدين لتعزيز نظام التجارة المشتركة    الرئيس السيسي يستقبل أمير الكويت اليوم    استشهاد «حسن».. سائح تركي يطعن جندي إسرائيلي في القدس (التفاصيل)    مقتل خمسة أشخاص وإصابة العديد الآخرين جراء الفيضانات بولاية «جامو وكشمير»    وزير التعليم ومحافظ القاهرة يفتتحان المعرض السنوي وورش عمل طلاب مدارس التعليم    «بكاء ومشادة».. مفارقة مورينيو تهدد صلاح بالرحيل عن ليفربول    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة.. «سيدات الأهلي» يواجه سان دوني    الإسماعيلي يزف بشرى سارة للاعبيه قبل مواجهة الأهلي    مصرع شخص دهسه قطار الصعيد في أبوقرقاص بالمنيا    الأرصاد تكشف حالة الطقس المتوقعة اليوم وموعد ارتفاع درجات الحرارة    توقعات برج الثور في شهر مايو 2024: تحديات ومشكلات على كافة الأصعدة    إحالة حرامي الهواتف بالموسكي للمحاكمة    مدبولي: العلاقات الوثيقة بين مصر وبيلاروسيا تمتد في جميع المجالات    رئيس "كوب 28" يدعو إلى تفعيل الصندوق العالمي المختص بالمناخ    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    أسعار السمك والمأكولات البحرية بسوق العبور اليوم الثلاثاء    فالفيردي: جاهز لمواجهة بايرن ميونيخ    القيعي: يجب تعديل نظام المسابقات.. وعبارة "مصلحة المنتخب" حق يراد به أمور أخرى    عضو إدارة الأهلي: دوري الأبطال ليس هدفنا الوحيد.. ونفقد الكثير من قوتنا بدون جمهورنا    جهاز مشروعات التنمية الشاملة ينظم احتفالية لحصاد حقول القمح المنزرعة بالأساليب الحديثة    بلينكن يتوجه للأردن لبحث سبل زيادة المساعدات إلى غزة    رئيس الوزراء الفلسطيني: لا دولة بدون قطاع غزة    تتزعمها سيدات.. مباحث الأموال العامة والجوازات تُسقط أخطر عصابات التزوير    أول بيان من «الداخلية» عن أكاذيب الإخوان بشأن «انتهاكات سجن القناطر»    وفد شركات السياحة المصرية بالسعودية يكشف تفاصيل الاستعداد لموسم الحج    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    مساعد وزير الخارجية الأسبق: الجهد المصري لا يتوقف لتهدئة الأوضاع في غزة    طرح فيلم "أسود ملون" في السينمات السعودية .. الخميس المقبل    رئيس جامعة المنيا يفتتح معرض سوق الفن بكلية الفنون    مستشار زاهي حواس يكشف سبب عدم وجود أنبياء الله في الآثار المصرية حتى الآن (تفاصيل)    ساويرس يوجه رسالة مؤثرة ل أحمد السقا وكريم عبد العزيز عن الصديق الوفي    لحظة إشهار الناشط الأمريكي تايغ بيري إسلامه في مظاهرة لدعم غزة    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    كيف علقت "الصحة" على اعتراف "أسترازينيكا" بوجود أضرار مميتة للقاحها؟    عشان تعدي شم النسيم من غير تسمم.. كيف تفرق بين الأسماك الفاسدة والصالحة؟    "البيئة" تطلق المرحلة الثالثة من البرنامج الوطني لإدارة المخلفات الصلبة    رئيس جامعة بنها يفتتح معرض الزهور الأول احتفالا بأعياد الربيع    المهندسين تبحث في الإسكندرية عن توافق جماعي على لائحة جديدة لمزاولة المهنة    ميدو يعلق على الجيل الجديد في كرة القدم    رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورنا يحسم الجدل بشأن حدوث جلطات بعد تلقي اللقاح    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    أقدس أيام السنة.. كيف تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بأسبوع آلام السيد المسيح؟    «الثقافة» تطلق النسخة السابعة من مسابقة «أنا المصري» للأغنية الوطنية    طلاب النقل الثانوى الأزهرى يؤدون امتحانات التفسير والفلسفة والأحياء اليوم    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    ألقوه من فوق مبنى.. استشهاد فلسطيني على يد قوات الاحتلال في الضفة الغربية    مساعد وزير الصحة: قطعنا شوطًا كبيرًا في تنفيذ آليات مواجهة تحديات الشراكة مع القطاع الخاص    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دموع فى الوادى المقدس
اسرار جديدة من أرض المعجزات..ملتقى الانبياء..مجمع الاديان

لو كان للجبال أن تبوح بأسرارها, لحكت عن سيناء الطاهرة المباركة ومعجزاتها الخالدة.. فوق تلك الأحجار وطأت أقدام سيدنا إبراهيم, وعلي ذلك الصخر مر سيدنا عيسي, وفي تلك البقعة سار سيدنا يوسف,
وعند سفح ذلك الجبل عبر سيدنا يعقوب, وبين تلك الوديان الجبلية عاش النبيان موسي وهارون, وفي قمة جبل الطور كلم الله موسي تكليما, وهنالك تجلي ربك للجبل فجعله دكا, وعلي مقربة, أسفل الحصي والتراب, يرقد رفات سيدنا صالح, ويقبع قبر سيدنا هارون, عليهم جميعا السلام.
جبل موسي
الحج إلي قمة كليم الله
هنا' كلم الله موسي تكليما'.. في تمام الواحدة صباحا من كل يوم يحين الموعد, العالم يجتمع من كافة مناحي الأرض, تلتقي أعين بلون البحر مع أخري زينها كحل البادية, يرتدي' الحجاج' القادمون من رحلة شاقة من القاهرة تستغرق أكثر من16 ساعة متواصلة, ملابس ثقيلة يبدون فيها وقد التحفوا دولابهم الشخصي بالكامل, فيما يستشهد أحد المصريين بملابس الأجانب الخفيفة باعتيادهم علي الأجواء السقيعة.. كشافات إضاءة صغيرة هي سلاحهم صوب القمة, أشكال الجبال تثير الهيبة في النفوس, يكونون دوائر يترأس كل منها' دليل' يقود المسيرة في حلكة الظلام.
في البدء تبدو الابتسامات سيدة الموقف فيما يرشد' الدليل' مجموعته مخبرا إياهم بأن الصعود لقمة الجبل ليس يسيرا ومن يحتاج إلي امتطاء' جمل' يساعده, فليطلب يرفض الجميع, لكنها20 دقيقة فقط وتبدأ الصدور في الصعود والهبوط من أثر المجهود, كانت هناك لافتة مدون عليها عبارة' ممنوع الصعود لمن هم أكبر من سن الخامسة والخمسين أو من يعانون من أمراض الضغط والسكر والقلب' غير أن التجربة أفضت إلي أن الصعود يحتاج تنظيم للأنفاس وغاية يحب صاحبها إدراكها, الطريق غير ممهد عن عمد, فالزيارة' دينية تحتاج لمشقة'.
2242 مترا هي ارتفاع جبل موسي الذي يقع فوق أرض تعلو عن سطح البحر بمسافة1600 متر, مع أول استراحة بعد مرور ساعة إلا ربع يقبع' كشك' صغير في وسط الجبل يبيع صاحبه عبوات المياه الغازية والشيكولاتة والبسكويت والتي تحوي سعرات حرارية عالية وأكواب شاي.. يلهث الصاعدون, فيما يجلس' عم حسين' مرشد سياحي بملابس مدنية علي عكس أصدقائه المرتدين ملابس بدوية- لا تفرقه عن المجموعة التي يقودها يصعد للمكان مرتين في الليلة يدخن السجائر بشراهة, يجيب علي أحد السياح الألمان بأنه اعتاد المسيرة ولا يعيقه التدخين فالسيجارة صديقته الوحيدة في ظلام المكان بعدما صارت كلماته الشارحة مجرد ترديدات جوفاء تخرج من فمه بملل رغم الآذان المنصتة بإصغاء.
وعورة الصعود
الطريق أو المدقات كان قد أمر بتمهيدها الخديوي عباس حلمي الأول في القرن التاسع عشر الميلادي ويعرف باسم' درب الجمال', ليست ممهدة بشكل كبير لكنها محدودة بمسافة تزيد عرضه عن المتر بقليل تحدد الوجهة حرصا علي عدم السقوط في غياهب الجبل, النجوم تتلألأ في السماء, التسبيح بدا سمة المكان والتأمل صار ديدن الصاعدين, الروحانية تحفهم, التساؤلات تثار: هل سلك موسي عليه السلام كل تلك المسافة فعلا لتأتي الإجابة في نقاش دار بين مجموعة من المصريين عن معاناة جميع الأنبياء, فتلك مشقة كابدها' خاتم الأنبياء' من الصعود إلي غار حراء أعلي جبل تاركا الليل وسكونه ليتهجد لبارئه, وهذا' إبراهيم' عليه السلام يترك زوجته هاجر في جوف الصحراء في واد غير ذي زرع مستعينا بالرزاق, ويونس في بطن الحوت يناجي, وعيسي وصالح وأيوب.
بأسنان خاصمت بعضها, ولغة بدوية وصوت خافت يليق بسكون الصحراء, يسير' محمود'36 سنة, ممسكا بالجمل- الذي استقله أحد' الحجاج' بعدما أرهقه السير بعد مرور ساعتين من الصعود- يعمل منذ ربع قرن في الجبل, لم يكن قد أكمل عامه الحادي عشر حتي بدأ عمله ك'دليل' في المكان, والده الذي يعمل بأحد الفنادق الكبري أخبره أن العمل في إرشاد الأجانب عن خيرات مصر لا توازيه متعة, قبل أن يستقر في العمل كجمال, سفينة الصحراء تقوده ويقودها, يتبادلان الأدوار' الجمل بيشوف أحسن مني ومنك.. كرم ربنا إنه بيشوفنا صغيرين'.. تخرج رأس الجمل وربع جسده قبل هوة سحيقة فيما تتمركز أقدامه في الطريق, يبتهل' أيمن' بصوت محشرج:' سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلي ربنا لمنقلبون'..' الغالي' هو اسم الجمل الذي اختاره له' محمود' يعرف صوت صاحبه من بين المئات هكذا يحكي الشاب الثلاثيني عن مصدر رزقه, يمر علي جمل آخر مربوط فيعانقه ويرحل, يسأل الراكب هل ممكن أن يسقط جمل أو ينحي بعيدا عن السرب فيجيبه ذو الملابس البدوية أن أكثر ما يثير هائجة الجمل هو بول أنثي الأبل حينها يعلم أن رفيقة مرت من هنا فيما يحتاج إلي الحب, لذا لا يعمل في شق طريق الرحلة من الجمال سوي الذكور.
يساير محمود' الجمال' الركب, أعداد الوافدين بالمئات لكنها لا تساوي واحدا علي ألف من أولئك السياح الذين يتذكرهم محمود بحسرة بعدما انحسرت أعدادهم.. في أوقات الركود يعمل محمود في' الفاعل', يحمل الطوب والزلط فتتأذي مشاعره, تقل نبرة الفرح في صوته, يجهم وجهه البشوش, فأكثر ما يحزنه أن يبعد عن مهنته' المقدسة' فيما تعيق مصطلحات' أكل العيش وجلب الرزق للأطفال' حلمه أمام ضيق اليد.
وعود التنمية
ثلاث ساعات مرت, علي آخر المدق داخل أحد الأكشاك يتمركز' إبراهيم فرج' واحد من10 آلاف نسمة هم سكان سانت كاترين, موزعين علي35 واديا, بلغ الثلاثين من عمره قبل شهور, يعزم علي المصريين بشرب الشاي مجانا, يحدثهم عن القاهرة وأجوائها, ينبئهم عن ضيقه كلما طالعت عينه مسئولا في التلفاز يتحدث عن' تنمية سيناء', يتهكم علي حاله رغم قوله:' سانت كاترين دي جنة علي الأرض', المدينة التي تم استردادها من إسرائيل في عام1979 والتي تمثل85% من مساحتها محمية طبيعية جري ضمها عام2002 إلي قائمة التراث العالمي, فعدم الاهتمام يضرب بمعوله بقسوة, خبراته الحياتية علمته بأن القادم أفضل, لا يقنط, لذا لا تفارق الابتسامة شفاه, يضع قدمه اليمني علي اختها, ينفث دخان سيجارته محلية الصنع, ويصبر الصاعدين بأن الرحلة قد شارفت علي الانتهاء.
البعض غط في النوم, علي أحد المصاطب, الساعة تدق الرابعة والربع والشروق في تمام السادسة والنصف,750 درجة سلم موضوعة بشكل غير منتظم, هنا تنتهي مهمة الجمل, فيما يتخلل الصعود مرور نحو ساعة وربع الساعة من المشقة, يجبر الصاعد فيها علي استكمال المسيرة بوتيرة ثابتة ففي الخلف يتطلع العشرات لصعود المكانة ذاتها, تبكي طفلة سويسرية تواسيها الأم ذات الأصول الشرق أسيوية, ترق القلوب المتعبة لدموع الطفلة الجميلة, يعرض البعض حملها فيما تخشي الأم من سقوط فلذة كبدها من أيدي أحد المنهكين فالكل في الإجهاد سواء, تتساوي زفرات الجميع رغم اختلاف الأقطار, بعض البنات استعن ببطاطين اشترينها من آخر استراحة, يلتحفن بها عسي أن تحمينهن; فأعلي القمة متوجة بالسقيع, يصيح' دليل':' هانت مرت300 درجة', يكاد أحد المصريين أيبكي ويصدر أحد الصاعدين ضحكة مجلجلة يرتج لها المكان بصدي صوته.
الخامسة والنصف علي ارتفاع3842 مترا فوق سطح البحر كانت اللحظة الحاسمة, الأرجل تطأ القمة, درجة الحرارة تحت الصفر, تبدأ إعداد العدة, رجل وزوجته أندلسيين اتخذا من صخرة مستقرا, احتل جانب من السماء ليكون لوحة مرسومة بحرفية تخالط فيها ألوان السماء السبعة ألوان الجبال, السحب بدت كخيوط حرير رقراقة, فيما راحت الأعين مشدوهة قبل القليل من الثلوج التي تغطي قمة جبل سانت كاترين أعلي نقطة في مصر..

طور سيناء
في طور سيناء احن رأسك إجلالا, واخلع نعليك تطهرا وتعظيما, واغمض عينيك خشوعا وتبجيلا, والتمس رسائل الحكمة من هدوء الأجواء المهيب, وانظر لعظمة الخالق فيما خلق, وتفكر في تلك الدروب الوعرة والصخور المتراكبة والجبال السامقة والرمال الطاهرة والحصي النوراني وما شهدته من معجزات ربانية, وما تنزل فيها من وصايا الخالق للخلق, وما حوته بين مسامها من آثار الأنبياء الأولين, وما حفظته من أسرارها لعباد الله الصالحين.
في طور سيناء تتوحد القلوب بحثا عن الغفران, ويمكث أثر خالد من المعجزات والكرامات والبرهان, هنالك تجتمع النفوس وتتحد الأديان, ولا يعود منها عابر أو زائر مثلما كان, واحدة من أطهر بقاع الأرض وأقدمها وأعظمها وأحبها إلي الله, وأقرب الأماكن إلي قلب البشر, فاشرع أبواب صدرك للمحبة يغمره نور الرحمن, واسجد فوق تراب سار عليه رسل الله برسالاته للإنسان, واترك لدموعك العنان.
أحوال العاشقين
منطقة سانت كاترين هي مرآة لنفسك, يأتي إلي هنا في كل أوقات العام زائرون من مختلف بقاع الأرض, يزورون ويطلبون البركة, بعضهم يمرح, وبعضهم يعتبر, وبعضهم يلتقط الصور التذكارية ثم يعود من حيث أتي, وبعضهم ينجذب بلا انفصال, وترتبط نفسه بلا انقطاع, ويصير من عشاق المكان الفريد المبارك, يغادر سيناء ولا تغادره, ويترك وراءه وعدا صادقا بزيارة أخري, وبعضهم يتبع إشارات نفسه دون إبطاء, ويقرر البقاء'.
هذا ما قاله لنا عم أبو سالم, رجل صالح زار الوادي قبل سنوات فقرر البقاء بلا عودة, واتخذ لنفسه بيتا وزوجة ومزرعة, وفتح أبوابه ملجأ للسائلين واستراحة للزائرين.
'لم أجد في حياتي الطويلة ومن بين الأماكن الكثيرة التي زرتها وعشت فيها أطهر من هذه البقعة وأكثر منها هدوءا وسكينة وجمالا وبعثا علي الراحة, ولم أتردد في البقاء حتي ألقي ربي.. من هنا'.
عبقرية المكان
في رحاب الجبال بديعة المظهر, تنعزل نفسك تماما عن دنياك وشواغلها, وسط السكينة تنسي صخب حياتك ومشاكلك الراسخة, في الهواء النقي البارد تنفث كل ما علق بنفسك من أحزان وآلام, وأمام جلال المناظر الخلابة وبهاء الطبيعة البكر بين الصخور والرمال والنوق وأهل البلدة الطيبين بأزيائهم التقليدية منذ قديم الأزل, تخلع ثوب الحياة اليومية الطاحنة بأزماتها, وترتدي ثوب الناسك المتصوف العاشق لجمال الكمال.
ترتفع هذه المنطقة من جنوب سيناء بجبالها الشاهقة فوق سطح البحر لكيلومترات فلا يصيبها الحر في أكثر أوقات العام حرارة, لا مصانع تلوث ولا مبان تحجب ولا ازدحام يضغط ولا ضوضاء تفقدك التركيز, تهدأ نفسك فور دخول المكان وتتخلص من أدرانها, لا شئ سوي خضرة وجبل وبيوت لا تعلو الطابق الواحد وسماء صافية وهدوء يبعث علي الرهبة والخشوع وثلوج تتنزل في الشتاء فتزيد المنظر الساحر نقاء وضياء وصفاء.
حياة الأهالي تقوم علي الرعي وعوائد السياحة, والتي تأثرت كثيرا بالأحداث التي تشهدها البلاد, غير أن آراء من التقيناهم أجمعت علي التفاؤل بمستقبل أكثر استقرارا يفتح أبواب الخير علي هذه المنطقة التي لا يكسر عزلتها سوي الزائرين والسائحين.
تنوع الزائرين
الوعي بمنطقة سانت كاترين ارتفع كثيرا في الآونة الأخيرة, وخاصة بين الشباب, مواقع التواصل الاجتماعي أسهمت بدور كبير في التعريف بالمكان وأهميته وروعته, تأتي مجموعات من الشباب الواع من الجنسين في رحلة لا تتجاوز الأيام الثلاثة, يبيتون ليلة في( الكامب), ثم يقومون بزيارة لدير سانت كاترين, وفي الليل يصعدون جبل موسي للاستمتاع بروعة مشهد الشروق من قمة الجبل, ثم يعودون أدراجهم بذكريات لا تنسي.
هكذا تحدث عم فرج الشهير بثعلب الصحراء أو فوكس, ويعتبر أحد أشهر المرشدين في سانت كاترين وأكثرهم خبره بالجبال ودروبها وكنوزها الكامنة من الأماكن السياحية.
بين أحضان تلك الجبال تكمن شلالات وبحيرات من مياه الأمطار وتكوينات ملونة من الصخور الجبلية الساحرة ووديان جبلية ذات طبيعة أخاذة, أكثر من خمس أماكن سياحية فريدة لا يوجد مثلها في العالم يمكن للزائر أن يستمتع بها خلال زيارته, غالبية الزائرين المصريين يقصدون الدير والجبل, ولكن تلك الأماكن الأخري يعي بها الأجانب من هواة سياحة المغامرة والتسلق, وهي تجربة غاية في الإمتاع لا ينساها من يقوم بها مدي الحياة.
مجمع الأديان
مجمع للأديان توج القمة في مساحة لا تزيد علي10 أمتار, مأذنة لا تتعدي ربع متر تعتلي مسجدا صغيرا, يقابلها صليب توج كنيسة, حيث يعتقد أن سيدنا موسي عليه السلام هبط6 درجات سلم ليناجي ربه, والذي يتسلله الآن الحضور أسفل ذلك السور الحديدي الصغير القائم الأن.
جبل التجلي
في الضوء يظهر جبل التجلي أو الدكة, ذو لون داكن مميز وسط قمم عدة يقبع أسفلها, تكوينه غير صخري كبقية الجبال المحيطة, تبتهج الأنفس لرؤيته, يغار ممن تجلي له الخالق, يتحدث البعض بفلسفة أن مهمته كقامة قد انتهت فيما يفسر آخرون متعة الفناء في عشق مسبب الوجود, ولكن الأعداد تبدأ في الخفوت تدريجيا, مع دقات السابعة صباحا, في طريق النزول تظهر بعض قطع الأحجار علي شكل أجزاء جسد إنسان متفرقة, يقال إنها الصخور التي تناثرت لحظة دك الجبل, للنزول طريقان, الأول هو نفس طريق الصعود وآخر مكون من4500 درجة سلم هي سبيلك لدير سانت كاترين الذي يعد مجمعا للأديان فهو يضم الكنيسة الكبري التي بنيت عام527 م تستند علي12 عمودا عدد حواري سيدنا عيسي بن مريم عليه السلام, وداخلها ثاني أكبر مكتبة دينية في العالم بعد الفاتيكان وبها أقدم نسخة من الإنجيل تعود للقرن السادس الميلادي, بالإضافة إلي معضمة تحوي رفات جميع الرهبان الذين عاشوا في الدير, وبجوارها المسجد الفاطمي الذي بناه الحاكم بأمر الله في القرن الحادي عشر, علاوة علي شجرة العليقة الممثلة لليهودية, وهي الشجرة التي يعتقد ان النار اشتعلت بها ليهتدي بضوئها سيدنا موسي للقاء ربه.
يشير كمال أحد المرشدين السياحيين إلي واد يقع غرب الدير يدعي واد الراحة تحتل إحدي صخوره نحتا لشكل عجل, يقال إنه عجل السامري.
في الصباح يكون الحمار هو الوسيلة البديلة للجمل; علي ظهره لا يحمل الأجانب وإنما تحمل اسطوانات البوتاجاز وبضاعة الأكشاك استعدادا ليوم جديد, فيما يسأل طفل والده عن عودتهما ثانية, وفتاة تشكر حبيبها علي رحلة العمر, وصديق ينظر بفخر لمهبط الرسالة, بينما يحدث أحدهم شقيقه عن شعوره بلمس قلبه للإيمان وخفقان فؤاده لا إراديا.
كاترين..القديسة التي وقفت في وجه الإمبراطور
فتاة مصرية مسيحية نابهة شجاعة جميلة ضربت المثل في الإخلاص والفداء, ولدت كاترين التي عرفت فيما بعد بالقديسة كاترين بالإسكندرية في القرن الثالث الميلادي, كانت واسعة القراءة والاطلاع والمعرفة وأوتيت من الحكمة والعلم منذ نعومة أظفارها, اعتنقت المسيحية عن إيمان عميق, وكان المسيحيون حينها يعانون من اضطهاد القيصر مكسيميانوس.
وقفت الشابة الشجاعة في وجه الإمبراطور, ولم تزل في الثامنة عشر من عمرها, رافضة ما يقوم به القيصر المجرم من تعذيب وقتل للمسيحيين وإكراه لهم علي اعتناق الوثنية وترك دينهم, حاول القيصر استمالتها بطلب الزواج منها فرفضت, عرضها علي علمائه وفلاسفته لمجادلتها في دينها فما كان منها إلا أن أقنعتهم باعتناق المسيحية حتي ماتوا عليها حرقا بأمر من القيصر, ذاع خبر الفتاة رغم سجنها واتسع تأثيرها حتي اعتنقت المسيحية زوجة الامبراطور نفسه وحارس سجن كاترين, فأمر القيصر بإعدامهما مع مجموعة أخري ليتسع تأثير الفتاة أكثر بذيوع تلك الأخبار, فجن جنونه وأمر بقطع رأس كاترين بالإسكندرية في نوفمبر عام307 م.
المعجزة
يروي تاريخ المسيحية أنه بعد5 قرون من الواقعة الأليمة, رأي راهب من سيناء رؤيا للملائكة تحمل جثمان كاترين وتضعه فوق قمة الجبل الذي عرف بعد ذلك باسمها, صعد الراهب إلي قمة الجبل ليجد جثمان الفتاة, حمل الراهب الجثمان إلي كنيسة موسي النبي, ثم تم نقل الجثمان إلي كنيسة التجلي في الدير الذي بناه الإمبراطور جوستنيان في القرن السادس, وعرف فيما بعد باسم دير سانت كاترين, وسمي الجبل باسمها.
ومن فوق قمة جبل موسي يمكن رؤية قمة جبل سانت كاترين علي مقربة, تبدو أكثر ارتفاعا, حيث يعد جبل كاترين الأعلي بين جبال سيناء بارتفاع يقدر ب2.629 مترا فوق سطح البحر, ويتميز كاترين عن جبل موسي بوجود مسلك للجمال يمكن من خلال أن يصعد الجمل حتي قمة الجبل, بينما يصعد الجمل في جبل موسي حتي بداية السلالم الصخرية البالغ عددها نحو750 سلمة حتي القمة.
دير سانت كاترين
لا يمكن أن تكتمل الرحلة إلي مدينة سانت كاترين بدون زيارة دير سانت كاترين أقدم دورا العبادة التي لم تتوقف عن ممارسة الشعائر داخل جدرانها والقابع وسط الوادي المقدس الذي يعتبر من أطهر بقاع الأرض, فبعد الانتهاء من رحلة الصعود إلي قمة جبل موسي يستقبل الدير زائريه عبر أبوابه العتيقة.. يقف محمد رشاد الذي يعمل مرشدا سياحا داخل الدير ليشرح أهميته وتاريخه لمجموعة من السياح المصريين قائلا:
تم تشييد الدير بناء علي أمر الإمبراطورة هيلين أم الامبراطور قسطنطين, ولكن الإمبراطور جستنيان هو من قام فعليا بالبناء بين أعوام545 م ليحوي رفات القديسة كاترين التي كانت تعيش في الإسكندرية. وأضاف: يقع دير سانت كاترين في جنوب سيناء بمصر أسفل جبل كاترين أعلي الجبال في مصر, بالقرب من جبل موسي. ويقال عنه إنه أقدم دير في العالم, يعد مزارا سياحيا كبيرا, حيث تقصده أفواج سياحية من جميع بقاع العالم. وقال المرشد السياحي إن الدير يمثل قطعة من الفن التاريخي المتعدد, فهناك الفسيفساء العربية والأيقونات الروسية واليونانية واللوحات الجدارية الزيتية والنقش علي الشمع وغيره. وأوضح أن المدخل الوحيد للدير كان بابا صغيرا علي ارتفاع30 قدما, وقد صمم لحماية الدير من الغرباء والدخلاء, حيث كان الناس يرفعون ويدلون بصندوق يحركه نظام من الروافع والبكرات. أما الآن فهناك باب صغير أسفل سور الدير. وقال إن الكنيسة التاريخية بها هدايا قديمة من ملوك وأمراء منها ثريات من الفضة وبه بئر يقولون عنها أنه بئر موسي. وحول شجرة العليقة أو الشجرة المقدسة أكد المرشد السياحي أنه يقال أنها شجرة موسي التي اشتعلت بها النيران فاهتدي إليها موسي ليكلم ربه, ويقولون عنها أنه جرت محاولات لاستزراعها خارج الدير ولكنها باءت بالفشل وإنها لا تنمو في أي مكان آخر خارج الدير.
داخل الدير توجد مكتبة المخطوطات والتي يقال إنها ثاني أكبر مكتبات المخطوطات بعد الفاتيكان, ونزل للزوار وبرج أثري مميز للأجراس. ويقوم علي خدمة الدير بعض أفراد من البدو. وكذلك توجد المعضمة وهي عبارة عن غرفة تحوي رفات جميع الرهبان الذين عاشوا في الدير وكان مسموح في السابق بالزيارة من الصباح الباكر وحتي الظهر بعد ذلك يغلق أبوابه أمام الزوار ليتفرغ الرهبان لواجباتهم الدينية.
كما أن هناك مسجدا صغيرا, قام أحد حكام مصر في العصر الفاطمي ببنائه داخل الدير حتي يحمي الدير من الهجمات التي كان يتعرض لها الدير من وقت لآخر.. كما قام نابليون بونابرت أثناء الحملة الفرنسية علي مصر بتقوية السور- الذي يبلغ ارتفاعه من40-200 قدم- وتعليته وأقام دفاعات بعد شكاوي الرهبان من تعرض الدير لبعض الهجمات.
طلاب طب شبين.. أمل بكرة
بينما الصدور تعلو وتهبط من رهبة صعود جبل موسي, فوجئنا بمجموعة من الشباب الواعد من كلية طب شبين, حرصوا علي الصعود إلي القمة والتقاط الصور التذكارية هناك, كانوا في غاية السعادة رغم المشقة التي عاناها بعضهم بسبب الخوف من الأماكن المرتفعة.. وفوق القمة.. رفعنا جميعا علم مصر.. وهتفنا في صوت واحد رددته جبال سيناء من أعلي مكان فيها تحيا مصر.
الألماني كوزموس:
أعيش في الجنة منذ9سنوات
في واد صغير أسفل جبال صافورة خلف جبلي سانت كاترين وموسي يقبع منزل صغير مبني علي الطراز الأوروبي يتميز بطول مدخنته التي تخترق سطحه إلي عنان السماء.. اقتربنا من المنزل قليلا كنوع من حب الاستطلاع فوجدنا أدوات نجارة وأخشاب كثيرة ومسامير وغيرها من العدد التي يستخدمها العاملون بمهنة النجارة.. حتي الآن يبدو المشهد مألوفا حتي خرج رجل أشقر بشعر منسدل ولحية طويلة في لون الثلج الأبيض يشبه كثيرا في صورته البابا نويل.
لم يندهش الرجل كثيرا من الطريقة التي كنا نرمقه بها حتي أنه بادر بتعريف نفسه قائلا بالإنجليزية: مرحبا.. أنا كوزموس الألماني, كانت تساؤلاتنا حول الرجل تتقافز وتبحث عن أجوبة.. ما هي قصته؟ ولماذا يعيش هنا؟ فكانت المفاجأة: اسمي كوزمزس برينهارد, وأعمل نجارا.. جئت إلي مصر مشيا علي الأقدام عام2007 برفقة زوجتي بعد أن حملنا أمتعتنا علي عربة خشبية صغيرة كارو يجرها حمارين.. الجميع هنا في كاترين يعرفون قصتي.
ويستطرد كوزمزس قائلا: كانت القدس وجهتي عندما قررت الخروج من ألمانيا باحثا عن السلام وعن مغزي وجودي بالحياة منذ19 عاما, مررت بثماني دول, فقد بدأت الرحلة من ألمانيا وذهبت منها إلي النمسا, ومن النمسا إلي المجر ثم إلي رومانيا فبلغاريا, وبعدها إلي تركيا ثم الأردن, وأخيرا كانت مصر حيث منعتني القوات الإسرائيلية من دخول القدس لأسباب واهية وهي أن الحجر الصحي رفض دخول الحمارين والكلبين يانا وفينوس التي أصطحبتها أنا وزوجتي خلال الرحلة التي اسمترت10 سنوات سيرا علي الأقدام.
ويتابع كوزموس: أمكث هنا في سانت كاترين منذ9 سنوات بعد أن أكتشفت فيها ذاتي وشعرت بأنها الجنة التي كنت أنشدها, لذلك قررت المكوث فيها علي أمل أن يأتي اليوم الذي أتمكن فيه من دخول القدس أو أموت هنا في كاترين.. لن أبرحها مادمت حيا.
تتوسط منزل كوزموس عربة خشبية عتيقة تشهد علي رحلته الطويلة, يعتبرها أهم قطعة خشبية قام بتصميمها بنفسه لتصبح حاوية لمستلزمات سفره الطويل وفي نفس الوقت طاولة يمكنه الجلوس حولها لتناول الطعام.. وفي خلفية المنزل لا يزال أحد الحمارين اللذين صحباه في رحلته إلي مصر علي قيد الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.