رفض مجلس النواب مشروع قانون الخدمة المدنية، وذلك بعد الحشد والضغوط الحكومية لتمريره، وصوره البعض أنه تحد للحكومة أو فشل لها، والبعض الآخر وصفه بأنه أول انتصار للمجلس. وحقيقة الأمر لا هذا ولا ذاك، ففى الدول الديمقراطية الحقة تصبح هذه التجربة مجالا ممتازا لدعم الديمقراطية وتصحيح أخطاء الحكومات إن رغبت حقاً فى ذلك. أول هذه الأخطاء أن هذا القانون الذى يهدف بحق إلى الإصلاح الإدارى لا يختلف عليه احد، فالجهاز الإدارى فى مصر يوظف نحو سبعة ملايين ويحكمه قانون أزلى تم تعديله عشرات المرات، وسمحت هذه التعديلات بتوظيف عمال وموظفين مؤقتين وغير مؤهلين لا يحتاجهم العمل، أو يحتاج مهارات مختلفة تماماً - ثم تثبيتهم فى وحداتهم أو بعد الحصول على مؤهلات أعلى لا تنتمى لوحداتهم أو لواجبات وظيفتهم. وكانت رواتبهم اسمية يتم إصلاحها بإضافة بدلات وتعويضات وزيادات لا حصر لها، كما سمح لبعض الفئات بأن تتقاضى حوافز وإضافات تصل إلى عشرات أمثال أو أكثر وأصبح الراتب الإجمالى عشرات الأضعاف من الأساسي، وسمح القانون أيضا بتقييم أكثر من 90 ٪ من الموظفين بمستوى الامتياز، كما لم يحدد أعداد المطلوبين للعمل فى كل وحدة وتضخم الجهاز بأعداد تفوق أضعاف احتياجاته. كل ذلك صاحبه خدمات متدنية وغياب أكثرية عن العمل، حيث يعملون فى جهات أخرى، مع انتشار للفساد والإكراميات والرشى والوساطة بدرجة ليست خافيه على أحد، والقانون الجديد يقضى على كثير من هذه السلبيات والفساد إذا تم تفعيله، خاصة فى التعيينات وتقييم الأداء ومراقبة الإنتاجية، وهو بحق منقول من دول متقدمة وليس اختراع العجلة للحكومة. وقد اتبعت مثل هذه الإجراءات منذ الخمسينيات فى برامج التنمية الإدارية الحكومية، لكن خطا الحكومة نتج عن إيمانها الزائف بأن الإصلاح يبدأ بقانون، وأن لها الحق أن تقول كن فيكون، ولم تع أن سبعة ملايين موظف ينغمسون فى هذه الحرية والفساد لن يقبلوا التغيير بسهولة، وسوف يعلو صوتهم بالاعتراض. ومن الطبيعى أن يرضخ مجلس النواب الحديث لهذه الاعتراضات ، وكان الأوقع أن تضع خطه للإصلاح الإدارى وتبسيط الإجراءات الحكومية وإصلاح النظم، وتدريب العاملين، وخفض الأعداد تدريجيا من خلال وقف التعيينات والإحالة الطوعية إلى المعاش المبكر، مع رفع الأجور للحد المناسب، ثم إصدار القانون الذى يجب أن يتضمن تطبيقا تدريجيا للإصلاح والتنمية البشرية على مدى عشر سنوات أو أكثر، لأنه يستحيل إصلاح سلوك سبعة ملايين موظف فى طرفة عين. إن دول العالم الصناعى تعانى دائما من البيروقراطية الحكومية، وموظف الحكومة بها هو أقل إنتاجا وأقل أجرا، لكنه يفضّل الحكومة لثبات الوظيفة وامتيازاتها، وليس هذا مقصورا على مصر، لكن تسعى الحكومات إلى الإصلاح والتطوير من خلال إصلاح النظم وليس بتغيير حاد للقوانين يمس الملايين الذين اعتادوا النظم المرنة غير الحاكمة والتى تسمح بالفساد . لم تأخذ الحكومة عبرة من الماضى مثل التعجل بإصدار قوانين قاصرة للمرور والاستثمار وتنظيم الإضرابات والتأمين الصحى واستصلاح الأراضى وإصلاح التعليم وغيرها خلال السنين الماضية، قبل الثورة وبعدها، فشلت هذه القوانين فى تحقيق أهدافها، لأنها ببساطة تضع العبء على الموظف ولا تصلح النظم، فمثلا تسعى لجنه إلى محاربة الدروس الخصوصية الآن وظهرت بوادر القانون بمعاقبة المدرس بالسجن إلى خمسة عشر عاما، لم تع الحكومة أن هناك قانونا يعاقب الاتجار فى المخدرات بالإعدام، ومع ذلك لم نسمع بمن اعدم فعلا، ونعلم يقينا زيادة انتشار تعاطى المخدرات، لم تدرك الحكومة أن إصلاح التعليم والمقررات ورفع كفاءة المدرسين وتطوير نظم التدريس واختبار الطلبة يكفى لمحاربة الدروس الخصوصية، وأن فصل المدرس الذى يتكرر مخالفته هو أكثر من عقاب كاف وليس السجن المؤبد. والمصيبة الكبرى أن الحكومة تلجأ لمن افسدوا النظم ليقوموا بالإصلاح فمثلا اقترح وزير سابق حديثا أن تعمل المدارس لفترات متأخرة، وأن يسمح بدروس تقوية بالمدارس بعد الظهر، هذا يعنى إقلال فترات الدراسة الأقل من نصف وقت الدراسة فى العالم المتحضر، وتقنين الدروس الخصوصية لتدر دخلا للإداريين والمشرفين لكى يحصلوا على جانب من التربح. وهم بهذا يكررون ما حدث من كوارث فى القطاع الصحي، حيث بدأت بالعلاج الاقتصادى وتدرجت إلى العلاج على نفقه الدولة وتضخم القطاع الخاص الطبى الذى أصبح هو المصدر الأساسى للعلاج. فى مصر نموذج آخر هو إصلاح الجامعات الذى لم يتغير كثيراً سوى فى مضاعفة أجور الأساتذة أربع مرات أو أكثر، وهم يستحقون ذلك وأكثر، ولكن ليس أن يبقى الحال على ما هو عليه وأكثر وأن تتضاعف أعداد الأساتذة أضعافا مضاعفة لما تحتاجه الأقسام العلمية فى كثير من الجامعات. وهناك عشرات الأمثلة لخطط عشوائية أو متعجلة لم ولن تنجح مثل قانون تنظيم الجامعات والمستشفيات الجامعية والتأمين الصحى الاجتماعى وكلها تبدأ ثم تنتهى بقانون . الخلاصة التى يجب أن تراعيها الحكومة والنواب هى أولا أن إصلاح النظم لا يتم أبدا بقانون لأن القانون لن يطبق ويسهل الالتفاف حوله، وثانيا أن الذين أوصلوا هذه النظم إلى ما نحن فيه هم غير قادرين أو غير متحمسين لإصلاحها، وثالثا انه مع وجود خمس وثلاثين وزارة وهيئات عديدة لن يصح إلا الإصلاح القطاعى الذى يضع خطة وطنية لكل قطاع بوزاراته وأنشطته وليس خط عشوائية لكل وزارة، ورابعا إن تضارب المصالح وأصحاب المصالح الخاصة لا يجوز أن يقودوا عملية الإصلاح. وأخيرا ان التدرج فى الإصلاح على سنوات هو الحل الطبيعى للمشاكل المتفشية وليس صدمات القوانين الحالمة، وذلك لإتاحة الفرصة للإصلاح الشامل وإعداد برامج التطوير لقوة العمل. لمزيد من مقالات د.سمير بانوب