الإصلاح طائر له جناحان بدونهما لن يحلق فى السماء الرحبة، ولن نقطف ثماره اليانعة المرجوة، الجناح الأول، هو الدولة المنوط بها تجهيز وبلورة سياسات ومسارات تلتزم بها مؤسساتها وهيئاتها دون استثناء، ومعاقبة المقصرين الذين لا يدخرون وسعًا لعرقلته، وأحيانا نسفه، الجناح الثانى هو المجتمع الواجب عليه القبول بدفع ثمن الإصلاح، والعمل على تهيئة البيئة الخصبة الصالحة لنموه وازدهاره قبل أن يحلم بما سيجنيه منه فى القريب العاجل. غير أن جناحى طائرنا الميمون مصابان بالعطب، فأصبحنا كمن يؤذن فى مالطا، فالسلطة لديها نية إصلاحية صادقة ورؤية تجتهد فى تحقيقها، لكن المشكلة العويصة المزمنة فى مفاصل الدولة الرافضة والمقاومة للمد الإصلاحى الذى يهدد عروش ومصالح القائمين عليها والمستقرة منذ عهود خلت، وغنى عن البيان أن البيروقراطية المصرية لها تاريخ طويل عريض أكسبها خبرة واسعة، وقدرة كبيرة على التحايل والالتفاف، للمحافظة على قوتها ونفوذها، وللأسف كانت سفن الإصلاح تتحطم دائما عند الاصطدام بحصونها المنيعة عالية الأسوار. الحال لم تتغير بعد ثورتين عظميين كان يُنتظر أن يكون لهما أبلغ الأثر فى تغيير أداء مؤسسات الدولة والوزارات، بدليل أن مشكلاتنا وأزماتنا اليومية محلك سر، ولا تطرأ عليها تحولات تبشر بأنها فى سبيلها للحل، بينما يكتفى غالبية السادة المسئولين بمغازلة كاميرات الفضائيات والمواقع الإخبارية بإطلاقهم تصريحات ووعودا عنترية تضل طريقها للتنفيذ، ولا تختلف أساليب مواجهتهم للأزمات عن سابقيهم، ولذلك يأتون ويرحلون وتبقى كما هي، وكأنها بيت وقف تتوارثه الأجيال العاجزة عن التصرف فيه. فالشفافية ليست حاضرة بالقدر الكافى الذى يُشعرنا بالرضا عن أداء المسئولين، لا سيما فى المحليات، فما أيسر المسارعة للنفي، واتهام وسائل الإعلام بالتضليل، وتعمد التصيد، وتسليط الأضواء الكثيفة على السلبيات دون الايجابيات، فأسوان مثلا سجلت بها فى الآونة الأخيرة عدة حالات وفاة قيل إن سببها الإصابة بانفلونزا الخنازير، وحتى ساعتنا تلك لا نعرف أين الحقيقة، فهى تائهة بين النفى والتأكيد. فالفساد المستشرى فى المحليات وغيرها يفرض سطوته، والكلمة العليا له، ولذا يحاول المستفيدون منه اجهاض الإصلاح بكل ما لديهم من قوة، والمعركة معهم ليست هينة وإنما هى ممتدة. اما الجناح الثانى وهو المجتمع فإنه يواجه معضلة التناقض، فهو يرغب فى الاصلاح وتحسين الأحوال، لكنه ليس مستعدا لتحمل آلامه، ودفع فاتورته الباهظة. فنحن لا نتوقف عن الكلام والإشارة إلى الإصلاح ووجوبه وضروراته، ثم يفاجئك رفضنا لان يكون المعيار الحاكم هو الإنتاجية، والمهارة، والكفاءة، فنحن كمواطنين نشكو مر الشكوى آناء الليل وأطراف النهار من بطء وبيروقراطية دولاب العمل الحكومي، وفى الوقت نفسه نريد الابقاء على الجهاز الادارى المترهل، ولنا المثل فيما جرى لقانون الخدمة المدنية. فمؤسسات الدولة وأجهزتها متخمة بملايين الموظفين غير المنتجين وعديمى الكفاءة الذين شغلوا وظائفهم بالواسطة، والمحسوبية، والرشوة، ويكتفى الكثيرون منهم بالذهاب صباحا للتوقيع فى دفتر الحضور والانصراف، والخروج من الباب الخلفى لمكان آخر يعملون فيه لزيادة دخلهم، أو الرجوع لمنازلهم. وعد بالذاكرة للفترة التالية لثورة 25 يناير وما مارسه العاملون فى الحكومة والقطاع الخاص من ضغوط وصلت إلى حد الابتزاز لتعيين أقاربهم وأبنائهم رغم عدم الحاجة إليهم، المحصلة كانت أن هذه الأماكن مثقلة حاليا بأعباء مالية تنوء بها وتجعلها لا تستطيع تطوير قدراتها الانتاجية لتلبية المطالب المتكررة لرفع المرتبات والحوافز والأوفر تايم. فسياسة لى الذرع لجأ إليها الجميع ونتج عنها تعمد المجتمع إضاعة قيمة العمل والكفاءة، وليصارحنا كل من ضغط لإلحاق ابنه أو ابنته بعمل ما : هل كان أو كانت مؤهلة وصالحة لشغله؟ أقدر وأحترم لهفة الآباء والأمهات على تأمين مستقبل أنجالهم، لكن هؤلاء يغفلون تأثيرات هذا على المجتمع المفترض أن يُعلى من قيم الكفاءة، والإبداع، والإنتاج، ألم تكن تلك أحلاما تراودنا قبل 25 يناير، فلماذا نقتلها فى المهد؟ إن ماليزيا التى نتغنى فى كتاباتنا بتجربتها التنموية والتكنولوجية نفذت إصلاحها الإدارى باصرار وجلد بالارتكاز على مجموعة عناصر رفضت القبول بأقل منها، وهى الإنتاجية، ونوعية الأداء، والتكنولوجيا، والتقريب بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز القيم الأخلاقية داخل الهيئات الحكومية، وتدريب الموظفين، وبناء إجماع داخلى حول الاصلاح، والاعتراف بجهود الاصلاحيين وتكريمهم، وتوثيق اجراءات الاصلاح، أرجو أن تدلنى على مؤسسة حكومية بها هذه المعايير. ومن ماليزيا أنقلكم إلى الهند التى أسوق لكم منها الخبر التالى: «أعلن المسئولون فى مدينة أمروها» شمال البلاد، أن أكثر من 19 ألف شخص تقدموا لشغل 114 وظيفة كعمال نظافة، من بينهم كثير من خريجى الجامعات وحملة شهادات الماجستير فى مجال إدارة الأعمال، وأن الراتب الشهرى للملتحقين بالوظيفة سيكون 17 ألف روبية «ما يوازى 250 دولارًا أمريكيًا». تعليقى على الخبر أن المجتمع الهندى ومتعلميه يقدرون قيمة العمل، ولا يستنكفون عن الالتحاق بأى وظيفة شريفة ستكون بكل المقاييس أفضل وأنفع لهم من البطالة، فهم لم يتظاهروا أمام ديوان الحكومة للمطالبة بتعيينهم، لكنهم بحثوا عن بديل يكفيهم ويحميهم حتى حين من أخطار ومآسى البطالة لحين العثور على ما يناسبهم ويتلاءم مع خبراتهم ومؤهلاتهم التعليمية، سيترك بعضنا المعنى الكامن خلف الخبر والتعليق عليه ويتمسك بأنه دعوة لمن أفنوا حياتهم فى تحصيل العلم ليصبحوا عمال نظافة، مع أن المغزى أن المجتمع باستطاعته تشجيع الشباب على الإعلاء من قيمة العمل مهما صغر حجمه، لأنه فى النهاية يخدمه ويخدم تقدمه ومسيرته الإصلاحية، ويجعله يتخفف من أثقال الوظيفة الميرى وتبعاتها الجسيمة. إن المجتمع المصرى عليه إدراك أن الاصلاح له ثمنه المعلوم المحتم دفعه عن طيب خاطر، وأن الإصلاح سيكون قاسيا وسيؤلمه بشدة، وأنه لا مهرب من مصارحة النفس بمواضع ومواطن مشكلاتنا التى يجب علاجها من جذورها وليس من أعراضها، وبدون ذلك سيظل الإصلاح طائرًا بلا جناحين. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي