بمجرد سماع نبأ رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة علي إيران وإعطاء الاتفاق النووي الضوء الأخضر, تعالت صيحات الدول وتباينت ردود الأفعال الدولية في دوائر صنع القرار لدي الخصوم والحلفاء.. ما بين مؤيد ومعارض.. مرحب ومتحفظ.. متفائل ومتشائم.. وكان لابد من التوقف عند أصداء القرار في الشارع الإيراني الأكثر تضررا من العقوبات طوال12 عاما, ومن المفترض أن يكون المواطن البسيط هو الأكثر استفادة من إنهائها.. وبالتالي يدفعنا هذا التطور النوعي في الملف الإيراني إلي قراءة تداعيات الموقف في الداخل قبل رصدها علي المستوي الخارجي. قال رضا خوئي الذي يعمل سائق تاكسي في طهران:' شيء لا يصدق!.. هذا يوم بلا عقوبات منذ سنوات, لقد خسرت وظيفتي في شركة بتروكيماويات في جنوبإيران بسبب هذه العقوبات اللعينة', فيما أكدت فهيمة لطفي, وهي أم لطفلين في سعادة:' تحولنا إلي دولة طبيعية مثل باقي الدول, فقد انتهي الوقت الذي اعتدنا فيه علي الذهاب إلي النوم ونحن نفكر في أسوأ السيناريوهات, برافو روحاني'.. والعبارة الأخيرة تقودنا إلي أول الخيط عند تحليل المشهد وتفنيده, فالقصة تبدأ مع السيناريو الذي رسمه الرئيس الإيراني المنتمي إلي تيار الإصلاحيين حسن روحاني, الذي شغل روحاني منصب كبير المفاوضين النوويين في إيران في الفترة ما بين2003 وحتي2005, إلي أن تولي السلطة عام2013 وتوج خبرته في التفاوض بالاتفاق الأخير الذي منحه شعبية جارفة وضاعف من أسهمه بعد أن فتح قرار رفع العقوبات الطريق أمامه لتنفيذ وعوده' عمليا' بتحسين مستوي معيشة الشعب ورفع كفاءة الاقتصاد الإيراني, خصوصا مع حصول طهران علي دفعة أولية من أموالها المجمدة في الغرب وتصل قيمتها إلي قرابة55 مليار دولار. وكشفت صحيفة' نيويورك تايمز' الأمريكية أن الانفراجة الإيرانية بقدر ما تعزز من موقف روحاني وتيار الإصلاحيين من خلفه, إلا أنه لا يزال الغموض يحيط بانعكاس الأمر إيجابيا علي الوضع الاقتصادي الداخلي لتعويض ما أفسدته سنوات العقوبات المريرة, موضحة أن الإفراج عن المليارات المجمدة ليس كافيا لتأمين مستقبل الإصلاحيين السياسي, من واقع آراء الخبراء الاقتصاديين الذين توقعوا أن تستغرق عملية إنقاذ الدولة من كبوتها شهورا وربما أكثر كي يتذوق المواطن الإيراني العادي' ثمار' رفع العقوبات. وأضافت الصحيفة أن التأخر في النتائج سيشعل الصراع علي السلطة ليواجه الرئيس روحاني معركة شاقة مع الجناح المتشدد في معسكر الإصلاحيين الذين سيكونون حريصين علي استخدام الاحتياطيات النقدية الإيرانية لأغراضهم الخاصة, بينما يواصل اقتصاد البلاد مواجهة ظروف غير مواتية تتمثل في انخفاض أسعار النفط, مما قد يقوض الكثير من المكاسب التي حققها روحاني خلال المفاوضات. ومن العبث أن يتجاهل المتابع للأحداث دور الحرس الثوري الإيراني في إعادة تشكيل البيت من الداخل, بعد أن نجحت خطته وبلغ هدفه باعتباره من أهم المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية, وكان الملف النووي والصواريخ الباليستية علي رأس مهامه, فضلا عن نفوذه الواسع وهيمنته علي مؤسسات اقتصادية وإعلامية وسياسية وثقافية منتشرة في عموم إيران, حيث تدر الأنشطة التجارية وحدها التي تتبعه دخلا يتراوح بين10 و12 مليار دولار سنويا. ومن خلال تحالف الحرس الثوري مع تيار المحافظين, صار التحدي أكبر أمام حكومة روحاني التي وجدت من يشاركها' كعكة' الانتصار النووي وحصاد سنوات الشقاء والصبر, خصوصا وأن ازدهار الاقتصاد الإيراني الذي يعتمد حاليا علي صادرات البترول بنسبة60% سيعني تدفق مزيد من الأموال علي أنشطة الحرس الثوري الخارجية, مما يثير المخاوف الدولية من توجيه الأموال نحو قنوات الإرهاب والحرب الأهلية في سوريا, بدلا من الاستفادة منها في الارتقاء بالبنية التحتية للدولة الإيرانية وإنعاش المجتمع الذي تحمل وطأة العقوبات ودفع ثمن مغامرات' الإخوة الأعداء'. هكذا تراجعت معركة إيران في الخارج نسبيا حفاظا علي مكتسباتها النووية وأهدافها, لتبدأ معركة في الداخل تعد الأكثر خطورة وتحديا لمستقبل البلاد التي تقف الآن علي حافة الهاوية بين التيار الإصلاحي بقيادة روحاني, مدعوما بالزعيم الروحي علي أكبر هاشمي رافسنجاني, وبين مثلث الرعب المكون من المحافظين والحرس الثوري والمرشد الأعلي علي خامنئي, علما بأن المعسكر الأخير يستخدم نفوذه وسطوته علي' مجلس صيانة الدستور', ضد الإصلاحيين بدليل رفض أكثر من70% من مرشحي تيار الرئيس شن حرب داخلية, ل' تقليم أظافر' نظام روحاني وحرمانه من الحصول علي الأغلبية الساحقة في البرلمان الإيراني اعتمادا علي شعبيته في الشارع. وأمام قدرة الحرس الثوري علي احتواء أي حراك شعبي أو غضب ميداني, يفضل روحاني اللعب بورقة رجال الدين النافذين للتأثير علي المواطنين واستغلال مساندة رافسنجاني في توفير الحماية اللازمة للنظام ومشروعه الإصلاحي بعد محنة العقوبات, ومن هذا المنطلق تتجلي خطورة الوضع داخل إيران عندما يحكم' صراع الأفكار' المعادلة السياسية, وهو ما يتفق مع رؤية المحلل السياسي الإيراني بمؤسسة كارنيجي للسلام كريم سجادبور بأن الاستفادة المشتركة بين حكومة روحاني' الشرعية' والحرس الثوري من رفع العقوبات لن تمنع اشتعال هذا الصراع بين طرف يفكر في راحة الوطن ويخطط لاستقراره, وآخر يرفض التخلي عن الأيديولوجية الثورية التي جلبت إليه المنافع والغنائم, بينما يظل المواطن الإيراني أول من يسدد فاتورة هذا الصراع.