بهدوء شديد، تعكف الصين على إعادة رسم وهندسة الخريطة السياسية والاقتصادية الدولية المستقرة، منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة، وانفردت خلالها الولاياتالمتحدة بمهمة صياغة شكل العلاقات الدولية بشقيها السياسى والاقتصادى، وموازين القوى فى قارات عالمنا المعاصر، فهى سيد العالم المطاع الذى لا يقدر احد على تحدى ارادته وخططه، برغم مشاكسات ومحاولات روسيا فى السنوات الأخيرة منافسة واشنطن وعدم ترك الساحة لها تماما. وفى تحركاتها وقراراتها تضع الصين نصب عينيها أنها ستنتقل من مرتبة ثانى أكبر قوة اقتصادية لتصبح القوة رقم واحد، وتهيئ نفسها لاستقبالها، وهى محصنة ومدعومة بأرضية صلبة تقف عليها، متمثلة فى بنيان اقتصادى متماسك مزود بآليات تمكنه من التجديد والتطوير المستمر، وتوسيع رقعة استثماراتها فى بقاع الأرض المختلفة، ونفوذ سياسى يزداد يوما بعد يوم. فالجيل الجديد من قيادات الصين لم يعد يتحرج من إبراز ثقة وقدرة بلادهم على القيام بدور القوة العظمى على الصعيد السياسى، والانخراط أكثر فأكثر فى جهود تسوية الأزمات الدولية المتفجرة، والاضطلاع بدور « الوسيط النزيه»، بعد أن كانت تتحسب من الاقتراب منها، وتبقى على مسافة آمنة منها لكى لا تحترق أصابعها بنيرانها المتأججة، وشظاياها المتطايرة يمينًا ويسارًا، يُستثنى من القاعدة السابقة الأزمات المهددة لأمنها القومى مباشرة، مثل الأزمة النووية الكورية، والنزاع الناشب مع اليابان، حول جزر فى بحر شرق الصين، وعمليات القرصنة البحرية. الغريب أن كثيرين فى مصر ومنطقتنا العربية لم يهتموا بقراءة وتحليل الخطوة المفاجئة التى استبقت بها الصين جولة رئيسها «شى جين بينج» التى ستبدأ غدا، وتشمل السعودية، وإيران، ومصر، حيث أصدرت وثيقة رسمية هى الأولى من نوعها بشأن سياسة الصين حيال البلدان العربية حجم التجارة بين الجانبين بلغ 251.5 مليار دولار العام الماضى . الوثيقة الرامية لتعميق التعاون الاستراتيجى بين الطرفين تخط مسارًا مغايرًا كلية للعلاقات الدولية يخلو من الانتهازية، وسياسة الإملاءات والشروط التى ميزت الحقبة التالية للحرب العالمية الثانية، فالصين تدعو إلى الاحترام المتبادل للسيادة، واحترام خيارات الشعوب، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمى، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، والتصدى الجماعى لانتشار الأفكار المتطرفة ومكافحة الإرهاب، وأن تستفيد الحضارات من بعضها البعض وليس التصارع والتشاحن. بالتأكيد فإن بكين تضع فى اعتبارها وحساباتها عند كتابة هذه الوثيقة الفارقة مصالحها العليا، فهى تحصل على معظم احتياجاتها النفطية من الدول العربية التى تشكل سوقًا حيويًة لصادراتها المتنوعة، ونقطة ارتكاز لاستثماراتها المقدرة بمئات المليارات من الدولارات، ويعنيها كثيرًا أن تتعاون مع العرب لمواجهة الإرهاب مع تمدد تنظيم داعش الإرهابى فى القارة الآسيوية، وشاهدنا ما فعله فى إندونيسيا قبل أيام، وإعلان ماليزيا اعتقال خلية داعشية كانت تجهز لهجمات إرهابية، لكن برغم هذه الاعتبارات والمصالح فإنها طرحت بديلا جاهزًا لنهج العلاقات الدولية الذى تطبقه الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الغربيون، ويتميز بالفوقية والاستعلاء، ولن يضر العالم أن يضعه موضع الاختبار فى مقتبل الأيام. فأمريكا والغرب لا يكترثان بفكرة احترام سيادة الدول، ورأينا كيف تعمل ولا تزال على تقسيم وتمزيق بلداننا العربية، والعراق شاهد حى على تلك الحقيقة المؤلمة والمخزية، ومن بعده سوريا، وحاولت تكرار سيناريو التقسيم والشقاق فى مصر بعد ثورة 25 يناير لولا لطف الله بنا، ويقظة قواتنا المسلحة، رأينا كذلك أن سياسة واشنطن تعتمد على استباحة الشئون الداخلية عبر تحديد شروط مجحفة، لتقديم مساعدات اقتصادية ومالية وتنموية، كمطالبتها باجراء تغييرات وتعديلات سياسية شاملة، ومساندة طرف على حساب طرف آخر، والترهيب بورقة حقوق الإنسان والديمقراطية، وتجنيد منظمات المجتمع المدنى لتخريب الداخل. بل إنها كانت سببًا رئيسيًا وراء استفحال خطر جماعات التطرف والإرهاب التى حظيت برعاية سامية وفائقة من أجهزة المخابرات الأمريكية والغربية قبل أن ينقلب السحر على الساحر، ويفلت زمام السيطرة منها، فلدينا تجربة تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، الذى تأسس وقت الاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وبعض تنظيمات من وصفوا «بالمجاهدين الأفغان» التى خرج من رحمها فيما بعد تنظيم طالبان، ودعمها لجماعة الإخوان فى مصر عقب ثورة 25 يناير، وكفاحها من أجل الإبقاء عليها فى المشهد السياسى رغم ثبوت تورطها وصلتها المباشرة بالإرهاب. وربما يكون الطرح الصينى لشكل مستحدث متوازن فى العلاقات الدولية «بشرى خير» قد يقود لتقويض، أو فى أقل التقديرات، تغيير الصيغة الراهنة غير المتوازنة، فأمريكا لن تكون الخيار الوحيد المفروض اللجوء إليه والانصياع لطلباته. ويبدو أن الصينيين عازمون على متابعة منهج توفير البدائل الأفضل للكيانات والمؤسسات الاقتصادية والمالية المتحكمة فى مفاصل وعقل الاقتصاد العالمى.فبخلاف مفاجأة وثيقة خريطة الطريق لمستقبل العلاقات العربية الصينية فى الألفية الثالثة، دشنت الصين السبت الماضى «البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية» برأسمال قدره 100 مليار دولار الصين المساهم الأكبر بمبلغ 29 مليار دولار، ويضم فى عضويته 57 دولة، من بينها مصر، هذا البنك أهميته لا تنبع فقط من أنه سوف يساعد آسيا التى تحتاج سنويا لبنية تحتية تكلفتها 800 مليار دولار، وإنما فى تشكيله نواة ليصبح بديلا لصندوق النقد والبنك الدوليين. فكلنا يعلم أن مساعدات صندوق النقد وقروض البنك الدولى كلها مشروطة بتنفيذ سلسلة لا تنتهى من المطالب والتغييرات التى لا يتناسب الكثير منها مع الظروف الداخلية لدول عديدة، لأنها تتسبب فى اغلاق مصانع والاستغناء عن أعداد غفيرة من العاملين فيها، ومن ثم تزايد معدلات البطالة وما يليها من هموم ومتاعب لا حصر لها على الداخل. والمعلن حتى الآن أن بنك الاستثمار الآسيوى فى البنية التحتية لن يفرض شروطا مماثلة، وأن اشتراطاته الأساسية تتصل بالشفافية فى عملية تنفيذ المشروعات، وهى شروط مرحب بها إن كانت ستعمل على اشاعة مبدأ الشفافية فى وطننا العربى وإفريقيا، الخلاصة أن الصين تستطيع ببدائلها تحريك المياه الراكدة، فلنمد يد المساعدة لها لمصلحتنا ومصلحة عالمنا، ولنختبرها لعل وعسى. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي