علماؤنا الأجلاء ومشايخنا الثقات، ومعهم مثقفونا، وصحفيونا، ونجوم الفضائيات والعالم الافتراضى الأشاوس، لا يكفون عن نقد ودحض خطاب المتطرفين، ومحترفى قطع الرءوس والتكفير، ودعاة الحرب والخراب، ويفضحون من خلاله زيف وبؤس هذه الفئة الضالة المضلة المشوشة والمشوهة عقليا ونفسيا، والتى تقودنا لطريق الهلاك والخسران المبين، وتسيء للإسلام والمسلمين أبلغ إساءة بأفعالها البربرية الشنعاء. وعندما تتحرى وتتقصى مردود وعائد جهد هؤلاء الناس فى وقف مد التطرف والغلو واتساع رقعته، سيفاجئك أنه فى الحدود الدنيا، وبدوا وكأنهم كانوا يحرثون فى الماء، لأن ما نراه ونتابعه من حولنا يُظهر بوضوح تام أن تحالفات وتشعبات الجماعات المتطرفة والإرهابية تتمدد وتتشعب فى القارة الأوروبية، وأمريكا، وآسيا، وإفريقيا، فالذين قرروا مواجهة داء التطرف فى العالمين العربى والإسلامى لم يهتموا بوضع قواعد منظمة للاشتباك معه يلتزم بها الجميع فى العالمين العربى والإسلامي، وتكون سببًا وحافزًا لتضافر السواعد فى التصدى لعدو مشترك يطرق أبواب الكل دون استثناء، وإعداد خريطة طريق للقضاء على أفاعى وأوكار التطرف، وتعظم فى الوقت نفسه من عوائدها وتأثيراتها الآنية والمستقبلية. أول قاعدة تؤسس لبلورة وصياغة القواعد المأمولة وجوب الاتفاق على أن المعركة مع التطرف فكرية أولا وأخيرا وليست أمنية ولا عسكرية، وأنها بالغة الصعوبة والتعقيد، مما يستدعى أن يتم خوضها فى إطار جماعى وليس فرديا، فالحاصل أن الفردية طاغية وقائدة، فنحن فى مصر نواجهه بطرق ووسائل شتي تختلف باختلاف توجهات ومشارب الهيئات الدينية والمدنية والأشخاص، بينما نجد صيغة مغايرة فى السعودية، والإمارات، وإندونيسيا، وغيرها من البلدان. ولمست تلك الحقيقة خلال مشاركتى أواخر ديسمبر الماضى فى ندوة «نقد أسس التطرف الدينى ومقولاته» التى نظمتها مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء بالعاصمة المغربية الرباط، فالمشاركون عرضوا وشخصوا وفصلوا ببراعة واقتدار العلل والأسباب المؤدية للشطط والتزمت اللذين يشكلان نواة الإرهابى الذى يركض خلف أوهام إحياء الخلافة الإسلامية واسترداد مجدها، وقدموا جهدًا علميًا راقيًا سيصدر لاحقا فى كتاب يطلع عليه نفر من هنا وهناك، أو يستفيد منه بعض الباحثين المشغولين بالموضوع، ثم تنتهى القصة، وهكذا يسير الحال. فالطاقات مشتتة ولا يجمعها رابط مع العلم بأنه لا يوجد أكثر من الكيانات الدينية على الصعيدين العربى والإسلامي، فالمغرب مثلا بها 150 ألف كيان دينى، و150 ألفا فى مصر، و200 ألف فى السعودية، فلماذا لا تتلاقى هذه الكيانات تحت مظلة واحدة، أو لنقل لتتعاون معا لمحاصرة خطر التطرف؟ إن قيل إنه يصعب وربما يستحيل الجمع فيما بينها، لا سيما وأن المسلمين والعرب لا يقدرون على العمل الجماعى الذى يخاصمونه، فلماذا لا يتصدى الأزهر الشريف لهذه المهمة الشاقة، خصوصا أن شيخه الدكتور أحمد الطيب قدم اقتراحا وجيها قبل أيام قليلة دعا فيه لإنشاء كيان من علماء الدين مواز للتحالف الإسلامى المشترك الذى أعلن تشكيله أخيرا وضم 34 دولة لمحاربة أهل الإرهاب من داعش، وبوكو حرام، والقاعدة، والقائمة تطول؟. توقعت أن تتلقف الفكرة منظمة المؤتمر الإسلامى وتنسق مع أزهرنا لتحقيقها، وأن ندخل عصر التعاون الجماعي، لكن الاقتراح مر فى لمح البصر دون الالتفات إليه بالقدر المستحق من العناية، وهو ما يُحزن المرء ويأسف له كثيرا، لأنه كان بامكاننا البناء عليه للتأسيس للقاعدة الثانية للاشتباك مع التطرف.. كيف؟ توجد حزمة من الاشكاليات والعقد التى يتعين التوصل فيها لقول فصل يكون محل توافق وإجماع بين المسلمين، مثل مفهوم الحاكمية الذى يصدره المتطرفون ويتخذونه رأس حربة لغسل أدمغة الوافدين الجدد، لإقناعهم بتكفير المجتمع الذى تربوا وعاشوا فى كنفه، وأنه لا مهرب من القتل والعنف دفاعا عن الدين، وأنه لا إثم على من يُهاجم ويقتل أفراد الجيش والشرطة. ويعد سيد قطب النموذج الأبرز فى هذه الإشكالية ويسير على هداه الكثيرون ويعتبرونه نبراسا لهم، فخلال ندوة الرباط لاحظت أن بعض الحضور يتحدثون عنه باعتباره ضحية، وأن المشكلة لم تكن فيه بل فى من قرأ وفسر كتاباته، وأنه كان من المجتهدين. يلزمنا أيضا أن نحدد ضوابط وأركان الخطاب الإسلامى ومدى تواصله مع عالمنا المعاصر من عدمه، وأن نخرج بخطاب عصرى يتناسب مع الألفية الثالثة، وأن ما كان صالحا ومناسبا للاقدمين والسلف الصالح والطالح ليس بالضرورة ملائما لنا الآن، فعصرنة الخطاب الإسلامى تعد شرطا واجبا وقاعدة ذهبية للاشتباك الصحيح والعلمى مع التطرف. يلى ذلك الاجماع على تنقية تراثنا الإسلامي، ونزع القداسة عن الأئمة فهم بشر يصيبون ويخطئون، والاعتراف الصريح بأن المتطرفين يستمدون زادهم من كتب التراث، وبيان السياق التاريخى والزمنى الذى صدرت فيه فتاوى بعينها فى الماضى السحيق، وأنها غير صالحة للتطبيق فى زمننا، وأن نعزز من المساعى الهادفة لإبراز تراث وكتب المجددين قديما وحديثا، من أمثال حسنين مخلوف، ومحمد أبو زهرة، وشلتوت، حتى لا تخلو الساحة لكتب تخاصم الدنيا وتبث الكراهية والحقد ورفض الآخر، وأن تراجع وتمحص بدقة المناهج الدراسية الدينية لتحريرها من الأفكار المسمومة التى وضعت بين ثناياها فى غفلة من الزمن، وأن التعددية والتنوع تمثل ركنا لا غنى عنه فى تعاليم الإسلام، فداعش وأخواتها يمقتون التعددية ويحاربونها بفظاظة مع أن المسلمين الأوائل كانوا منفتحين ومقبلين على التواصل والتفاهم والتحاور مع الحضارات آنذاك، وكان التسامح، وإعلاء القيم الإنسانية، والحوار من الصفات الحميدة الملازمة لهم، ويحاول المتطرفون اليوم الردة عن هذه المفاهيم والقيم السامية الراقية. إننا فى احتياج ماس وملح إلى مؤتمر إسلامى يجمع أهل العلم والخبرة والبصيرة فى الدين والدنيا لإزالة الالتباسات وسوء الفهم العالق بالقضايا السابقة وما زاد عليها، وإن تهربنا من هذا الاستحقاق فلن نتغلب على التطرف، وسيظل اشتباكنا معه ضعيفا مادامت القواعد المنظمة له غائبة. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي