بين تاريخ الميلاد فى 11-2-1886 وتاريخ الوفاة فى 19-10- 1941، عاشت الأديبة مى زيادة هذه الفترة من حياتها التى كان فيها من أسباب النجاح والعبقرية الكثير، وفيها من أسباب التعاسة والشقاء الأكثر. لكن الفترة التى نشرت فيها مقالاتها على صفحات الأهرام كانت فترة توهج وعافية وإبداع, كما سنرى من المختارات طى هذه الصفحة, والتى تمثل بعض إشراقات مى زيادة التى سطعت وتوهجت من خلال الأهرام, فأضافت إلى جريدتنا العزيزة الماجدة واستعارت منها وهجا فوق وهج. ولكن قبل أن أتركك عزيزى القارئ تطالع جمال وبهاء أسلوب مى المرهف وفكرها المتألق فى بعض ما نشرته لها الأهرام, لابد أن أعطيك لمحة عن تلك النفس التى تقاسمها الجمال والشقاء, وغلب الشقاء على الأعوام الأخيرة لتلك الساحرة- صورة وعقلاً- التى فتنت أدباء مصر فى شبابها. بدأت مآسى مى بموت شقيقها الوحيد وعمره عامان، ورثته فى كتابها «ابتسامات ودموع»، قائلة: «إلى أخى الوحيد الذى تقاسم الأثير والثري». ثم مات والدها ثم والدتها، وبدأ ورثة والديها يضايقونها فكتبت إلى ابن عمها جوزيف زيادة: «لقد تراكمت عليّ المصائب وانقضت عليّ وحدتى الرهيبة التى هى معنوية أكثر منها جسدية، فجعلتنى أتساءل كيف يمكن أن يقاوم عقلى عذابًا كهذا». فجاء جوزيف إلى القاهرة وأخذ منها توكيلاً عامًا لإدارة ممتلكاتها ثم استضافها عنده فى بيروت، وعندما حاولت العودة إلى مصر منعها فأضربت عن الطعام، فطلب لها مستشفى العصفورية للأمراض العقلية, وظلت هناك عشرة أشهر، وقام السيد مارون غانم وخليل اللوزى وفؤاد حبشى وفيلكس فارس وأمين الريحانى بشن حملة صحفية كبيرة انتهت بأن أخرجوها منها بعد أشهر من العذاب والظلم والشقاء. وسجلت مى أيام عذابها فى كتاب «ليالى العصفورية» الذى اختفى تمامًا، وقالت الأستاذة سلمى الحفار الكزبرى إنه مازال محفوظًا مع أشيائها فى بيروت، وإن أقاربها يرفضون السماح بنشره. وقبل ذلك مات حبيبها جبران خليل جبران, الذى أحبته وأحبها عبر البريد، والذى قالت عنه: «لقد أحببت شخصًا من الصعب إدراكه، ومات هذا الشخص فاعتبرت نفسى أرملته وطويت صفحة حياتي». وفى 1936 عندما غادرت منزلها فى القاهرة، تركت وراءها أوراقها ومكتبتها الخاصة التى تضم سبعة آلاف مجلد، وعندما عادت عام 1939 اكتشفت أنها سرقت ولم يبق منها إلا ألف وخمسمائة مجلد فقط. واعتزلت الناس، خصوصًا بعد موت الأديب فيلكس فارس وأمين الريحانى اللذين طالما وقفا بجوارها، لكنها تماسكت وقامت بإلقاء محاضرة بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة، عنوانها «عش فى خطر» أثبتت بها أنها فى كامل قواها العقلية. وفى التاسع عشر من أكتوبر 1941 لاحظ البواب عدم خروجها من المنزل، فكسر عليها الباب ووجدها غائبة عن الوعي، فقد كانت تتعاطى دواء «الفيرامون» للتغلب على آلام أسنانها, التى رفضت علاجها، لأن أدوات الطبيب تذكرها بالأدوات التى كانوا يستعملونها معها وهى فى «العصفورية» لإطعامها بالقوة،ويبدو أنها أفرطت فى تعاطيه, ونقلوها إلى مستشفى المعادى حيث ماتت هناك. ماتت، ولكن كتبها باقية. ونحن ندين بالشكر للدكتور جوزيف زيدان، الذى قام بتحقيق كتابها «الكتابات المجهولة لمى زيادة»، وقدمت له الأديبة غادة السمان، وقامت السيدة ميسون القاسمى والمجمع الثقافى لدولة الإماراتالمتحدة بنشر هذا الكتاب الذى يضم معظم مقالات مي, ومنها المقالات التى نشرتها فى الأهرام. لقد أثبتت مى أنها ليست مجرد امرأة جميلة، وإنما عقل عبقرى سابق لعصره، وإن كان ذلك من أسباب شقائها، حيث قضت حياتها فى الكتابة والتأليف وماتت وحيدة فى النهاية, ورثاها الكثيرون ممن كانوا يرتادون صالونها الأدبى ومعظمهم وقعوا فى هواها وهى فى أوج الشباب، ومن أجمل ماقيل فى رثائها ما قاله العقاد فى كلمات قلت ودلت وأبدعت حين أوجزت: «كل هذا فى التراب؟.. آه من هذا التراب!».