وسط ترحيب دولى وإقليمى كبيرين تمكن الفرقاء الليبيون فى السابع عشر من ديسمبر الماضى من توقيع اتفاق للمصالحة الوطنية فى مدينة الصخيرات المغربية تحت رعاية الأممالمتحدة، حيث حمل هذا الاتفاق آمالاً واسعة لاستعادة الاستقرار فى الدولة الليبية التى تحولت على مدار السنوات الخمس الأخيرة إلى ساحة للصراعات بين الجماعات المسلحة وملاذ للجماعات الإرهابية التى استغلت حالة الفراغ الأمنى والتناحر السياسى فى ترسيخ أقدامها والسيطرة على ما يزيد على عشرين بالمائة من التراب الليبى. وعلى الرغم من زخم التطلعات التى بعثها اتفاق الصخيرات بين ربوع ليبيا، وكذلك فى محيط جوارها الإقليمي، باعتباره فرصة للشعب الليبى للخروج من دائرة العنف، والعودة إلى الحوار، إلا أن هذا الاتفاق حمل بين طياته العديد من التحديات وضحت بعض ملامحها فى ردود فعل الداخل الليبى على الاتفاق فهناك قطاعات من القوى السياسية الليبية اعترضت على المشاركة فى الاتفاق والتوقيع عليه وأعلنت رفضها له، وعن أى حل وسط، حيث إن هذه القوى ومنها «ائتلاف فجر ليبيا» يخشون ليس فقط التهميش السياسي، ولكن أيضاً المحاكمات المحتملة إذا تأسست حكومة وحدة وطنية بسبب الجرائم التى ارتكبوها فى حق الشعب الليبي. افتقاد الإجماع السياسى واعتبرت هذه القوى أن هذا الاتفاق يفتقد «الشرعية» لعدم مشاركة العديد من أطياف الشعب الليبى فى توقيعه، وأن الحكومة الوطنية المزمع تشكيلها ما هى إلا حكومة وصاية على الشعب الليبي. وكان فى مقدمة المعارضين رئيسا البرلمانين فى طرابلس وطبرق، نورى أبو سهمين، وعقيلة صالح، فعلى الرغم من مشاركة مجموعة من نواب البرلمان فى توقيع الاتفاق يصر رئيسا برلمانى طرابلس وطبرق على أن من وقعوا اتفاق الصخيرات لا يمثلون إلا أنفسهم. وأكدت الموقف ذاته دار الإفتاء الليبية، التى يترأسها الشيخ الغريانى صاحب النفوذ والسطوة الدينية الواسعة، عندما اعتبرت أن الاتفاق «أمراً غير معتد به شرعا» إذ أن الموقعين لا يملكون «ولاية شرعية» وليسوا مخولين بالتوقيع، وأن من شارك فى مفاوضات الصخيرات والتوقيع على الاتفاقية، من غير أعضاء المؤتمر الوطنى العام فى طرابلس، والبرلمان الليبى فى طبرق، ليست لهم ولاية أصلا، ولا يمثلون أحدا شرعا. كما اعتبر رئيس الحكومة فى طرابلس، خليف الغويل، أن كل ما سيتمخض عن اتفاق الصخيرات «ليس شرعيا». كما أعلن منسق أعيان ومشايخ برقه دائرة المرج (المرج – الساحل – جردس العبيد) حسين عبدالجليل العبيدى ان التوقيع على حكومة ما يسمى بالتوافق المفروضة على الشعب الليبى غير شرعى وغير قانونى وباطل وأن الشعب الليبى والتاريخ لن يرحم أحداً من الذين شاركوا فى جلب حكومة وصاية على الشعب الليبي. وفضلا عن الانتقادات والمعارضات التى أبدتها عدد من القوى السياسية والتى تشير فى طياتها لاحتمالات تشكيل حكومة وفاق وطنى ثانية موازية للتى أقرها اتفاق الصخيرات، وبدأت المشاورات الخاصة بها فى لقاء رئيسى برلمانى طرابلس وطبرق نورى أبو سهمين، وعقيلة صالح فى تونس ومالطا، كما انتشرت معلومات عن وجود مفاوضات أيضا فى سلطنة عُمان، لاسيما بعد تصاعد دورها كوسيط نزيه فى عدد من الأزمات الإقليمية المتصاعدة مثل سوريا واليمن. مرحلة انتقالية فقد برزت العديد من التحديات التى تواجه تنفيذ بنود اتفاق الصخيرات، إذ نص الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، لتوحيد القوتين المتنازعين على الحكم فى البلاد، ولتقود هذه الحكومة مرحلة انتقالية تنتهى بإجراء انتخابات تشريعية بعد عام، وتوسيع المجلس الرئاسى ليتكون من تسعة أشخاص، رئيس وخمسة نواب وثلاثة وزراء دولة، وتأسيس مجلس أعلى للدولة ومجلس أعلى للإدارة المحلية وهيئة لإعادة الإعمار وأخرى لصياغة الدستور ومجلس الدفاع والأمن. أما القرارات فتتخذ ب «إجماع مجلس رئاسة الوزراء». وبخصوص الآجال والمدد المنتظرة لإنجاز مراحل الانتقال، فحدد الاتفاق أربعين يوماً للمجلس الرئاسي، بقيادة «فايز السراج»، وتمثيلية عضوين عن كل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة الشرق والغرب والجنوب للإعلان عن الحكومة التى ستقود مسيرة الانتقال بليبيا إلى إعادة بناء الدولة والشرعية ومؤسساتهما. استعادة الأمن إلا أن الاتفاق لم يشمل الإجراءات والضمانات الكفيلة بتنفيذ هذه البنود على النحو الصحيح، وخاصة فى ظل استمرار المواجهات على الأرض والانتشار الواسع للجماعات المسلحة التى ترفض بعضها الاتفاق، وتتنافس فى ولائها السياسية والقبلية حيث يمثل استعادة الأمن فى العاصمة وجميع أنحاء الدولة التحدى الرئيسى أمام حكومة الوحدة الوطنية للانتقال من احتكار الجماعات المسلحة للقوة العسكرية إلى تكوين قوة متكاملة محايدة تكون نواة لجيش وطنى نظامي، حيث تعد هذه العملية أصعب معضلة يمكن ان تواجهها حكومة الوحدة الوطنية الجديدة والتى تجعل مستقبل ليبيا محاطاً بالغموض، فتكوين الجيش والمخابرات سيخضع للمحاصصة السياسية والقبلية شديدة التعقيد، فى ظل وجود قيادتين للجيش إحداهما فى طرابلس والأخرى فى طبرق. وقد نص الاتفاق على أن كل صلاحيات القيادات العسكرية فى ليبيا تؤول لمجلس الوزراء وبعد عشرين يوما إذا لم يتم الاتفاق على تثبيت هذه القيادات العسكرية فى مناصبها فإن هذه المناصب تعد شاغرة ويعمل مجلس الوزراء على ملئها، ولكن لم يحدد بشكل دقيق مصطلحات «وقف إطلاق النار» و»الإجراءات الأمنية». المركز والأطراف كما تواجه حكومة الوحدة الوطنية الليبية تحديا آخر خطيرا، يرتبط بقدرتها على تحقيق أهدافها وانجازاتها على المستوى المركزى والمستويات المحلية، خاصة أن الأطراف المعارضة للاتفاق تعهدوا بمنع حكومة فايز السراج، من دخول طرابلس، وقد حاولت الأممالمتحدة معالجة هذه الأزمة، حيث أعلن رئيس بعثة الأممالمتحدة إلى ليبيا، مارتن كوبلر، بعد توقيع اتفاق الصخيرات، أن بعثته تجرى اتصالات مع مسئولين أمنيين فى طرابلس، بهدف التوصل إلى اتفاق يسمح لحكومة الوفاق الوطنى بمباشرة مهامها فى العاصمة. وفى ظل انخفاض إنتاج النفط وسيطرة الجماعات المسلحة على الحقول النفطية، مما ينذر بإعلان الحكومة الإفلاس فى عام 2016، قد تكون حكومة التوافق الوطنى مضطرة لتخفيض الرواتب الشهرية والإعانات المجتمعية، ومن ثم تحتاج هذه الحكومة للدعم الخارجى من خلال الإفراج عن الأموال الليبية المجمدة، وتقديم الدعم للجيش الليبى برفع الحظر على تسليحه وخاصة فى معركته ضد الإرهاب، مع فرض حظر صارم على إمداد المتطرفين بالأسلحة التى يأتى معظمها عن طريق البحر. فى الوقت الذى تعد مشاركة القوى الخارجية فى دعم الحكومة الوطنية لتنفيذ بنود الاتفاق محاطة بالعديد من المحاذير، فالقوى الغربية لديها مصالح إستراتيجية فى ليبيا وخاصة ما يتعلق بالحفاظ على إمدادات النفط، وينظر إليها الكثيرون على أنها تسعى نحو تنفيذ مشروع استعمارى جديدة، وعلى الجانب الآخر، لا يعكس الحضور العربى والإقليمى فى الأزمة الليبية فى كثير من الأحيان مصالح الشعب الليبى بقدر تحقيقه لأجندات ومنافسات بين القوى الإقليمية المختلفة. ومن ثم، يبقى عبء الإجراءات الأمنية والاقتصادية منصباً على الأطراف الليبية ذاتها مما يزيد من تعقيد المشهد السياسى الداخلي. احتمالات التدخل الدولي كما يظل انتشار الجماعات الإرهابية بين أرجاء الدولة الليبية بداية من أنصار الشريعة وتنظيم القاعدة وصولا الى داعش، يضعف من فرص نجاح التسوية السياسية للصراع، ويقف حائلا أمام جذب مزيد من المؤيدين لهذه التسوية، حيث يطرح هذا الوضع العديد من التهديدات ويمهد الطريق للتدخلات الخارجية، واختراق سيادة الدولة، وخاصة فى ظل محاولات العناصر الإرهابية القيام بتكوين تحالفات داخل الدول المجاورة لليبيا مع الجماعات المشابهة لها، وكذلك القيام ببعض العمليات عبر الحدود مثل ما شهدته تونس خلال عام 2015 من اضطلاع تنظيم داعش بعمليات إرهابية نوعية داخل حدودها حيث جاءت عناصر التنظيم عبر الحدود مع ليبيا. وقد يؤدى هذا الوضع إلى قيام بعض الأطراف الإقليمية بعمليات عسكرية محدودة لمنع تمدد هذه الجماعات داخل أراضيها أو للرد على عملياتها، كما يفتح المجال أمام فكرة التدخل العسكرى الدولى فى ليبيا مرة أخري، حيث لا تزال بعض الدول الغربية وفى مقدمتها فرنسا تسعى للحصول على موافقة دولية لتوجيه ضربات لتنظيم داعش داخل ليبيا وذلك كجزء من الرد على عمليات التنظيم ضد فرنسا وتهديده للأمن العام الداخلى فيها، وكذلك مع ورود معلومات تؤكد وصول مئات المقاتلين التابعين ل «داعش» إلى ليبيا. ويؤكد عدد من المحللين أن المجتمع الدولى دفع باتفاق الصخيرات بهذه السرعة، فى محاولة لإيجاد غطاء شرعى للتدخل فى ليبيا، والذى من المتوقع أن يكون بقيادة فرنسية، ونقلت صحيفة «لوفيجارو الفرنسية»، مؤخرا من مصادر عسكرية موثوقة، أن باريس طلبت من دول الجوار الليبي، المساعدة فى التدخل البرى فى ليبيا، بهدف القضاء على داعش، وقد حددت تلك المصادر موعد التدخل البرى الفرنسى قبل ربيع 2016، بعد أن حصلت على موافقة نهائية من إيطاليا. وقالت الصحيفة، إن فرنسا تنتظر موافقة دول الجوار، وخاصة مصر والجزائر وتونس، بالإضافة إلى بريطانيا. الهلال النفطي وبرز مؤشر إضافى على قرب التدخل العسكري، مع ما كشفته صحيفة «الجارديان» البريطانية من أن قوة عسكرية أمريكية زارت ليبيا لاستطلاع شن هجوم ضد «داعش». وأكدت صحيفة الجورنالى الإيطالية، مؤخرا إن الولاياتالمتحدةالأمريكية أرسلت عددا من القوات الخاصة إلى قاعدة الوطنية الجوية فى غرب ليبيا، مضيفة أن مجموعة العسكريين الأمريكيين المتخصصة فى العمليات الخاصة، حلت فى القاعدة العسكرية الخاضعة لقوات الجيش الليبى فى الغرب الليبى غير بعيد عن الحدود التونسية، فى عملية استطلاع وتمهيد لانتشار أمريكى متوقع، لإطلاق عملية عسكرية ضد «داعش» الذى يسعى إلى التوغل فى الشرق فى اتجاه المناطق النفطية، حيث يسعى للسيطرة على الهلال النفطى بين أجدابيا ورأس لانوف وحتى ضواحى سرت وهى المهمة التى يدركها الغرب جيدا. فى نفس السياق ذكرت صحيفة الجارديان، أن بريطانيا تأمل إرسال مئات الجنود إلى ليبيا بعد توقيع اتفاق السلام، وبحسب الصحيفة، تتوقع بريطانيا أن تطلب منها الحكومة الليبية الجديدة إرسال قوات لتدريب وتقديم المشورة للقوات الليبية لتحقيق الاستقرار فى ليبيا ووقف تقدم «داعش»، وأوردت الصحيفة قول وزير الدفاع البريطانى مايكل فالون لتليفزيون القوات المسلحة، إن وزارته مستعدة لإرسال ألف جندى فى مهمة غير قتالية. آثار كارثية ولعل مخاطر هذا التحدى لن تتوقف عند حدود ليبيا وحدها، بل سيكون لهذا التدخل آثار كارثية سواء على الداخل الليبى أو على منطقة الشرق الأوسط بأثرها حيث ستنتقل العناصر الإرهابية إلى دول الجوار الليبى مما يفجر الوضع الأمنى فى الإقليم، ويفتح المجال أمام مزيد من التدخلات الخارجية فى دوله.