خرائط العالم ماتزال حائرة بين التقسيم والإندماج فكل عام تنضم دولة جديدة للخريطة عبر قرار الانفصال ورغم أن العالم وخاصة أوروبا وآسيا يحتفل كل خمس سنوات تقريبا بميلاد دولة جديدة خرجت من عباءة دولة كبرى .. إلا أن المنطقة العربية يبدو أن التقسيم والانفصال بسبب التراث السلطوى وحلم القومية يمثل لها كابوساً وتهديدا للمصالح والأمن القومى وفى نفس المشهد تظهر الخرائط الجديدة ممزوجة بدماء مئات الألاف تنزف فى سوريا وليبيا ومروراً باليمن والعراق. إن غياب الديمقراطية يساوى حضور الدم، هكذا يمكن فهم ما يحدث فى عالمنا اليوم فعندما قرر برلمان إقليم كاتالونيا الإسبانى -الشهير فى عالمنا العربى بسبب انتماء فريق برشلونة للإقليم - الانفصال عن إسبانيا فى نوفمبر الماضى لم يعلن الجيش الإسبانى الطوارئ وحشد القوات لمحاربة الإقليم بل استدعى الآليات الديمقراطية والدستورية ونقلت مدريد القضية إلى المحكمة الدستورية التى رفضت قرار الانفصال فى ديسمبر 2015 بسبب عدم مشروعية قرار البرلمان ليستمر الإقليم فى محاولاته للحصول على الحكم الذاتى فى مقابل سعى الحكومة المركزية الدؤوب للحيلولة دون تمريره. بالتوازي، بدا أن حلم انفصال إقليك كيبيك عن كندا قد تبدد مع قدرة الحكومة المركزية على فرض قوة الأمر الواقع خاصة بعد أن ادرك مواطنو الاقليم الذين يتحدثون الفرنسية أن الانفصال يساوى خسائر اقتصادية فادحة وتراجع مستويات معيشتهم ودخولهم. إن هذا المشهد ينقلب تماما فى منطقتنا، فمشاريع الانفصال لا تحل عبر الادوات السياسية والقانونية والاقتصادية بل عبر فوهات البنادق وبراميل المتفجرات، ودماء سكان المنطقة هى الثمن لفاتورة مصالح الدول الكبرى وغياب الديمقراطية وآليات تسوية الصراعات فى عالمنا العربي. إن خرائط التقسيم فى العالم العربى تروى فقط بالدماء، ففى سوريا تحولت الدولة العربية إلى مجرد أشلاء متناثرة بين مناطق يسيطر عليها الجيش السورى وآخرى تابعة لقوات المعارضة وثالثة يفرض عليها تنظيم "داعش" الإرهابى هيمنته ورابعة تحت إمرة قوات كردية. ورغم أن سوريا اصبحت مقسمة إلى أربعة أجزاء بحكم الأمر الواقع وبحكم البندقية فإن السعى للإبقاء على الدولة المركزية ووحدة الأراضى السورية تنطلق بها أفواه كافة القوى العالمية والإقليمية بينما الجميع ينخرط فى دفع الأموال ونقل السلاح من أجل استمرار حالة التقسيم الحالية انتظاراً لاستغلال وجوده على الأرض السورية من أجل الحصول على ثمن أكبر فى أى تسوية دولية وإقليمية قادمة. وشرقاً، اصبح الإقليم الكردى بالعراق يحتمى بكافة مقومات السيادة فى ظل غياب الحكومة المركزية المنشغلة بمحاولة اصلاح ما يمكن اصلاحه فى "فضيحة" الهزيمة أمام "داعش"، بينما الأخير يسيطر على حيز جغرافى كبير بما يشبه الدولة لينتهى التقسيم بين دولة كردية وسنية وشيعية ويظهر شبح احتمال الاعتراف بوجود "السرطان الداعشى" كدولة جديدة فى منطقتنا العربية. وغربا فى ليبيا، انتهى اتفاق المصالحة إلى تشكيل حكومة مركزية لا تجد لها أى سند فى الواقع فى ظل سيطرة الطرفين الرئيسيين على شرقى وغربى البلاد فى حالة من التقسيم بالسلاح كما هو الحال فى باقى الدول العربية . وهو نفس الأمر الذى يتكرر فى اليمن التى اصبحت بالفعل دولتين الأولى يسيطر عليها الانقلابيون الحوثيون وعاصمتها صنعاء والأخرى فى عدن تقودها الحكومة الشرعية المستندة على التحالف العربي. ووسط هذه الخريطة، تراجع الاهتمام بتقسيم أرض فلسطينالمحتلة بين "حماس" فى غزة والسلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية. وهكذا فإن الواقعية السياسية تفرض الاعتراف بوجود 16 سلطة جديدة بقوة السلاح والواقع فى المنطقة العربية فى خريطة تجعل من عدد دول المنطقة يقترب من 40 دولة "فعلياً"، فهناك أربعة فى سوريا وثلاث فى العراق وثلاث فى لبنان واثنتان فى كل من اليمن وفلسطين وليبيا. هذه الخريطة يصعب رسمها بخيوط المؤامرة "التى يتعايش عليها البعض"، فحتى خرائط المؤامرة الأمريكية الافتراضية لم ترسم كل هذه الدول والسلطات بالسلاح، إنها خريطة لا يصعب فهمها دون النظر لتاريخ طويل من السلطوية وفشل السياسة فى عالمنا العربى لصالح قانون الموت والحروب. سيبدأ عام 2016، والسؤال العربى هو: هل سنحافظ على الخريطة أم أن الانفجار والإنفصال والتبعثر قادم وحتمى؟.. ويبدو أنه ستتواصل محاولات بعض الاقاليم فى العالم للانفصال وقد ينجح بعضها وتظهر لنا على الخريطة دول جديدة، ولكن تجربة البلقان فى التسعينيات أعطت الدرس لأوروبا أن حل قضية الانفصال بالسلاح مآلها هو التدخل العسكرى الدولى والأمريكى ودفع فاتورة باهظة من الدماء وبالتالى فإن مائدة التفاوض حتى لو قدمت عليها كؤوس مرة من التنازلات تظل أقل تكلفة من فاتورة الدم الباهظة والدرس الأهم أن الحروب الأهلية ليس ثمنها الدم فقط بل الثمن الأخطر هو انهيار الدول والانفجار وتحول المناطق إلى بئر لا يمتليء من الصراعات والمجموعات المسلحة وينتهى إلى الفوضى التى تفوق عقل "المؤامرة"!