أمضيت الأسبوع الفائت فى المغرب، ومن هناك تابعت فصول أزمتين سياسيتين، إحداهما مغربية والثانية مصرية بامتياز، فقد اندلعت عاصفة هوجاء، عقب إدلاء شرفات افيلال، الوزيرة بالحكومة المغربية المسئولة عن ملف المياه بتصريحات حملت نبرة سخرية من قيمة معاشات الوزراء ونواب البرلمان البالغة 8 آلاف درهم ما يزيد على 7 آلاف دولار ، واصفة إياها بأنها « جوج فرانك» مصطلح قديم متداول ويعنى 2 فرانك واعتبرتها لا تغنى ولا تسمن من جوع!. سيل الانتقادات العنيفة للوزيرة دفعها للاعتذار، وإبداء الندم الشديد على ما صدر منها، ثم التزمت الصمت التام وصامت عن الكلام المباح وغير المباح لوسائل الإعلام المحلية، لكن العاصفة لم تخمد ولم تمر بسلام وزادت حدتها وحيزها مع اطلاق دعوات شعبية وسياسية تطالب باقالتها، وإلغاء معاشات الوزراء والنواب، خصوصا أن صناديق تقاعد البرلمانيين تكاد تكون على وشك الافلاس، واتسع نطاق الأزمة باتهام البرلمان بالكيل بمكيالين، لأنه فى الوقت الذى يناقش فيه اصلاح تقاعد الموظفين لا يجرؤ على التطرق لمعاشات البرلمانيين، ويتجنب طرحها للنقاش. وسط معمعة « جوج فرانك» أصدرت المحكمة الدستورية قرارا باسقاط عضوية 4 نواب، بسبب تغييرهم انتماءهم الحزبي، فالنائب الذى يغير صفته التى تم على أساسها انتخابه لا يستحق الشفقة والرحمة والبقاء تحت قبة البرلمان لثانية واحدة، لاقدامه على ارتكاب جريمة غش صريح غير مقبولة للناخبين. البرلمان المغربى لم يتعمد المداراة ومحاولة إغلاق الملف سريعا، والنخبة لم تخف رأسها فى الرمال وكانت على مستوى الحدث باستعراضه من زواياه وابعاده الآنية والمستقبلية، والتأكيد على أنه لا احد فوق المساءلة ورقاب الجميع خاضعة للقانون. كانت تلك تفاصيل المشهد على الجانب المغربي، بينما انشغلت القاهرة بمتابعة مسلسل الخروج الكبير من ائتلاف «دعم مصر»، وتراجع احد الأحزاب الثلاثة المنسحبة عن قرار الانسحاب بعد ساعات قليلة من اعلانه، وعند قراءة المشهدين سنجد أنفسنا أمام سياسيين وبرلمانيين محترفين يقدرون ويتوخون مصلحة الوطن، وآخرين تحت التمرين، وتطغى على كثيرين منهم روح المغالبة لا المشاركة. فحال ووضع مصرنا يتطلب أن يكون لواء المشاركة مقدما على ما عداه، وأن توجه كل الطاقات والأذهان نحو فتح المسام السياسية لبلادنا وليس تضييقها بالسعى لاحتكار الأغلبية، فتجربة الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل لا تزال ماثلة فى ذكراتنا الوطنية بما تضمنته من احتكار للعمل السياسي، وسيطرة كاملة على البرلمان لا مكان فيها لرأى مخالف، واعتبار المعارضة جزءا من الديكور السياسى المكمل للشكل الديمقراطي. وعندما نخضع أداء أغلب نوابنا الجدد فى مجلس النواب الذى لم يبدأ أعماله للتقييم ستصطدمنا نتائج التشخيص، لاننا نراهم حتى الآن ينشغلون بالقضايا الصغرى على حساب الكبري، مثل استخدام جواز السفر البرلمانى فى المهام غير الرسمية، والتيسيرات الممنوحة لهم للحصول على القروض، وراتب حضور الجلسات واللجان الذى يكلف الخزينة العامة أموالا طائلة، كلامى عن هذا الشق غير مرادف لمنعها، وإنما لترشيدها وعدم الإسراف فيها على الأقل مراعاة للظروف المالية الدقيقة للدولة المصرية، وأن يكون نواب الشعب فعليا المثل والقدوة فى التضحية والعطاء عند الشدة. وما أزعجنى كثيرًا فى قصة ائتلاف «دعم مصر» أن عشرات النواب المستقلين هرولوا للقفز دون تفكير إلى عربته المنطلقة، اعلم أنه يحق لهم دستوريا وقانونيا الانضمام للكيانات السياسية، لكننى مندهش من المبدأ الذى قام عليه التحالف من الأصل وافترض فيه جازما أن النواب سوف يتقاعسون عن دعم الدولة، وأنه من الأسلم والأضمن «التكويش» على الأغلبية، لتمرير القوانين والقرارات الداعمة لها الدولة ، ثم لماذا لم يفكر المستقلون فى تشكيل كيان خاص بهم يوسع دائرة الاجتهادات والعمل النيابى بدلا من اللحاق بائتلاف متنافر الاتجاهات لا يجمع بين أعضائه توجها سياسيا واحدا؟ لقد كنت أطمع لرؤية كيان للمستقلين يثرى مناقشات برلمان الثورة المصرية بطبعتيها، وأن يتبنى قضايا محورية مفيدة لمصرنا الجديدة، كالتعليم مثلا، فلا نجاح ولا فلاح للمحروسة ونهضتها سوى بالتعليم الذى بات عصيا على اصلاح وعلاج جذور مشكلاته ومتاعبه الحقيقية مكتفين بالسباحة على شواطئها دون الدخول فى الأعماق، وهو ما يجعلنا ندور فى دائرة مفرغة دون أن نلمس تحسنا وتطورا فعليا لنظامنا التعليمى المهترئ، والمخاصم للعصرية، ولا ينتج كوادر وكفاءات مبدعة. إن اصلاح التعليم لابد أن يكون شاملا وجامعا، وأن يدرج ضمنه التعليم الدينى الذى نتردد فى الاقتراب منه خشية التشكيك فى الذمة الدينية للداعى لاصلاحه. وخلال زيارتى للمغرب فتح رئيس المجلس الاعلى للتربية والتكوين والبحث العلمى عمر عزيمان، الملف الحساس لاصلاح التعليم الدينى، واخضاعه للمراجعة، ابتداء من الكتاتيب، وانتهاء بالجامعات المتخصصة فى الشريعة والدراسات الإسلامية، ودعا عزيمان لفصل المسيرة الاصلاحية للتعليم عموما عن السياسة ومزايداتها، والهوى والتحيز الايديولوجي، لأنها تتصل بقضية حيوية ومصيرية. ليتنا نحتذى بهذه الطريقة فى التفكير والتصرف، فالحديث عن اصلاح التعليم الدينى يترجمه بعض الخبثاء إلى أنه اشارة القصد منها تنحية الدين جانبا لافساح المجال للاتجاه العلماني، وتغيير الهوية الدينية لبلدنا دون الوضع فى الحسبان أن عصرنة التعليم بجناحيه المدنى والدينى من الضرورات، وأن التعليم الدينى يحوى بين جنباته نصوصا تقود للغلو والتطرف ومن بعدهما تسويغ الإرهاب وتبريره، فتنقية المناهج الدينية ليست جريمة ولا أثم عظيم يستوجب التوبة عنه، فالنصوص غير مقدسة وتحمل اجتهادات وأفكار علماء حتمها وأوجبها العصر الذى كانوا يحيون فيه، فمتى نتشجع ونصلح تعليمنا إصلاحا جذريا؟ لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي