الوقوف على مواقف جماعات المعارضة السورية تجاه «خريطة الطريق» التى تم التوافق على خطوتها العريضة فى «فيينا» خلال شهر نوفمبر الماضى بين ما يسمى ب «المجموعة الدولية لدعم سورية»، وتحليل تلك المواقف ربما يحتاج إلى تحرير مفهوم «حرب بالوكالة» من الكثير من الأوهام والأساطير التى علقت به. صحيح أن إجتماع الكثير من مجموعات المعارضة السورية فى «مؤتمر الرياض» الذى التأم فى الثامن من ديسمبر الحالى، يمثل خطوة إلى الأمام على طريق توحيد مواقف تلك المجموعات، سواء كانت سياسية أو عسكرية. لكن لا يزال من المبكر جدا الحديث عن معارضة سورية واحدة أو موحدة، أو يمكنها أن تتحدث أمام النظام السورى، والمجتمع الدولى ضمن برنامج مشترك أو توافقات الحدّ الأدنى الملزمة لأغلبية المعارضين، وبما يمنح هذه «المعارضة» الطابع الوطنى الذى يكسبها صدقية الالتزام وجدية الشراكة فى المرحلة الانتقالية التى من المفترض بدؤها مع بداية العام المقبل برعاية أممية. وهى رعاية تدرك أن أهداف المجتمع الدولى فى القضاء على «داعش» وإدارة مسألة اللاجئين ووقف المأساة السورية، لن تأخذ مفاعيلها إلا تحت سقف عملية انتقال سياسى فى سورية، تكون المعارضة طرفاً أساسياً فيها. السلام السفلى إن وصف المستنقع السورى ب «حرب بالوكالة» يفترض أن الصراع أساسا يدور حول انقسامات أكبر داخل الإقليم، خصوصا الانقسام (السني- الشيعي، السعودية – وإيران). ويشير كذلك إلى أن الصراع سيتم تسويته أساسا بواسطة فاعلين من الخارج بعد تفكيك خلافاتهم على الطاولة. لكن تاريخ الحروب بالوكالة يعلمنا أن جميع الافتراضات السابقة خاطئة، ولا تنطبق على الحالة السورية. وأنه لكى ينتهى القتال فى سوريا، ستحتاج جميع الأطراف إلى معرفة حقيقة الحرب بالوكالة، وأنها عادة لا تنطفئ لمجرد توافق القوى الخارجية، ولكن تحتاج إلى جانب ذلك محاولات من أسفل لأعلى لصنع السلام بين المقاتلين المحليين، أو تحولا جوهريا فى ميزان القوى للصراع على الأرض. إن حروب الوكالة لا تمكن قوى خارجية السيطرة على زخم الصراع بدرجة مائة فى المائة. وطالما أن أيا من الأطراف لا يتحدث بجدية عن حملة برية كبيرة أو مهمة حفظ سلام، فإن مصير الحرب يتقرر أساسا بواسطة المقاتلين المحليين وليس بواسطة قوى الخارج. بل يمكن لبعض الحروب أن تستمر إلى أجل غير مسمى، حتى مع وجود القليل جدا من الأسلحة المتقدمة أو الدعم الخارجى فى خزائن كل طرف. على سبيل المثال، الحرب الأهلية الصومالية لا تزال مستعصية على الانتهاء، على الرغم من عدم وجود رعاة من القوى الكبرى ووجود قوات حفظ السلام هناك على فترات متقطعة. كذلك فإن حمل فاعلين خارجيين على الحد من دعمهم لعملائهم على اختلافهم لا يؤدى بالضرورة إلى نتيجة حاسمة.. على سبيل المثال، لم تنته الحرب الأهلية الدموية فى أنجولا بعد انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن تلاشت بعد أكثر من عقد تال. بشكل مماثل، من الصعب تخيل وضع الفصائل العديدة فى سوريا لأسلحتهم حتى ولو لم يكن هناك تدخل من طرف ثالث أو صفقة سلام كبرى. فى الواقع، حتى لو أمكن لوزير الخارجية جون كيرى صك اتفاق يوافق بموجبه السعوديون، القطريون، الإيرانيون والروس على إلغاء جميع مظاهر الدعم فى المستقبل لفصائلهم فى سوريا، فإن ذلك لا يعنى أن الحرب ستنتهى بين يوم وليلة، دون أن ينفى ذلك أن حدة العنف ربما ستنخفض فى هذه الحالة. حرب المزايدات فى الكثير من حروب الوكالة يتلاعب الفاعلون المحليون بداعميهم الخارجيين، وليس العكس. ويغير المتمردون دعاواهم كى تتلائم والأوزان النسبية الإقليمية، الأمر الذى يخلق نوعا من حرب المزايدات بين فصائل المعارضة. فى أثناء الحرب الباردة، كانت الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى بالكاد قادرتين على فك شفرة الميول الأيديولوجية للعديد من العملاء فى العالم الثالث، بسبب تغيير تلك الميول. عندما علّقت واشنطن الدعم المقدم لنيكاراغوا وكوبا لفترة، أصبحت ماناجوا وهافانا صديقتين حميمتين لموسكو. وبعد أن قطعت موسكو دعمها عن الصومال، بدأت مقديشيو فى تبنى المبادئ الرأسمالية الغربية. الشئ نفسه يحدث اليوم فى سوريا.. فقد قام جنود سابقون من حزب البعث ومعارضون علمانيون آخرون بإطلاق لحاهم ولفقوا مظاهر إسلامية لهم على موقع يوتيوب بهدف المزايدة على أقرانهم من عناصر المعارضة. كذلك تمكنت بعض الجماعات على الأرض من تأمين تدفق مستمر للمال والسلاح، ومظاهر أخرى للدعم من الخليج، من خلال ملاءمة صراعهم مع الرواية الأكبر بشأن الصراع الإقليمى الطائفي. وفى السياق ذاته، حرصت بعض أطراف المعارضة السورية التى شاركت مؤخرا فى مؤتمر الرياض، على عدم إغضاب القيادة السعودية، ووقعت فى النهاية على بنود وردت فى البيان الختامى، تتعارض تماما مع قناعاتها، ولهذا لا تنوى الإلتزام بها فعليا. تواطؤ متبادل من ذلك تصريحات لأقطاب من جماعات المعارضة شددت على توافقها على «مدنية» الدولة السورية، الأمر الذى أثار ويثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات، لا على المصطلح فحسب، ولكن حول النوايا الكامنة تحت سطحه، والتى تشى ب «تواطؤ متبادل» بين الأطراف المجتمعة وليس توافقها أو إجماعها... إذ كيف يمكن أن تلتقى نظرة «أحرار الشام» مع نظرة ميشيل كيلو وجورج صبرا لمفهوم «مدنية» الدولة السورية على سبيل المثال.... كيف يمكن ل»دولة الشرع والشريعة» التى تطالب بها «أحرار الشام»، أن تكون مدنية وديمقراطية، وأن يحظى فيها المعارضان المسيحييان – اليساريان، بدور فى مستقبل سوريا، أو ربما حتى بحقهما فى الحياة؟ ذُكِرَ أن الأطراف فى فيينا وافقت فى 14 نوفمبر على إضافة جبهة النصرة إلى قائمة الإرهابيين فى سوريا إلى جانب داعش، الأمر الذى يعنى أنه بالإمكان استهداف جبهة النصرة حتى فى ظل وقف إطلاق النار المقترح. ولكن تضمين جبهة النصرة وجماعات أصغر فى قائمة الإرهاب سيعقد الوضع بشكل كبير ويهدد بتفكيك أى اتفاق محتمل. والشاهد، أن مؤتمر الرياض شهد انسحاب حركة أحرار الشام، قبل إقناعها فى الدقيقة الأخيرة بالعودة وتوقيع الإتفاق. والسبب فى ذلك هو القلق الشديد الذى تستشعره الحركة، بعد استبعاد حليفها الأوثق، أى جبهة النصرة، من العملية. ولهذا كان من السهل، خلال مؤتمر الرياض، إجبار مجموعات مثل الجيش السورى الحر وجيش الإسلام، التى تعتمد بكثافة على الرعاية الخارجية، على الحفاظ على عملية المفاوضات رغم الهوة الأيديولوجية الواسعة بين الجيش السورى الحر العلمانى وجيش الإسلام الإسلامي. لكن بالمقابل كانت أحرار الشام أقل ميلا للاستسلام للضغط الخارجي، رغم أنها مدعومة من تركيا وقطر وبدرجة أقل من السعودية. وفى القادم من الأيام سيكون من الصعب إبقاء الجماعة منخرطة فى العملية. حيث استمرت «أحرار الشام» وجماعات أخرى أصغر حجما، فى العمل عن كثب مع جبهة النصرة. وسيكون من الصعب إقناع هذه الجماعات بفك ارتباطها عن تحالفاتها وجبهة النصرة، سواء أكانت هذه التحالفات أيديولوجية أم مصلحية. والتحد الأكبر ربما سيتمثل فى إقناع الجماعات نفسها بوقف القتال ضد قوات الأسد، وتحويل أسلحتها صوب جبهة النصرة. الحرب بالوكالة لا تعنى أن الأطراف المحلية ستلتزم دائما بتفضيلات وتكتيكات وكلاء الخارج بشكل صارم... بل أحيانا تكون لها إنحيازاتها وتفضيلاتها الخاصة. على سبيل المثال، خاضت على امتداد الأسابيع القليلة الماضية، جماعتان من المعارضة مدعومتان من الولاياتالمتحدة، معارك ضارية شمالى حلب، وذلك بدلا من محاربة داعش أو قوات بشار الأسد، حيث تهدد المناوشات بين غرفة عمليات المعرة (تحالف يتشكل أساسا من وحدات تابعة للجيش السورى الحر وتسيطر على مواقع ضد داعش شمالى حلب) وجماعة جيش الثوار(تمثل جزءا من القوى الديمقراطية السورية) بتقويض الجهود الدولية لاستخدام فصائل المعارضة لدفع داعش خارج المنطقة. ويزداد الأمر سوءا، أن الصراع المحلى قابل للانتشار، ليشمل وحدات الحماية الشعبية الكردية. لكلتا الجماعتان روايات مختلفة جذريا حول كيفية اندلاع القتال... يقول جيش الثوار ان الصراع بدأ عندما هاجمته جبهة النصرة بالقرب من بلدة أعزاز شمالى حلب فى 23 نوفمبرالماضى، لتجبر وحدات جيش الثوار على الدفاع عن نفسها. بينما أنكرت غرفة عمليات المعرة هذا الادعاء، لتقول فى المقابل إن جيش الثوار هاجم مواقعها بدعم من قوات الحماية الشعبية الكردية وقوة جوية روسية، وهو الأمر الذى أنكره جيش الثوار بشدة. صراع ممتد وكانت وحدات من الجيش السورى الحر مع غرفة عمليات المعرة، قد خططت، خلال الاسبوع الأخير من نوفمبر الماضى، كى تكون لهما اليد العليا فى القتال ضد داعش، بدعم من أحرار الشام، إلا أن الصراع يمتد وربما يشمل قريبا قوات الحماية الشعبية الكردية. قوات الحماية الشعبية الكردية هى حليف نشط لجيش الثوار فى تحالف القوى الديمقراطية السورية المدعوم من الولاياتالمتحدة. حققت القوى الديمقراطية السورية نجاحات كبيرة فى قتالها ضد داعش شرق نهر الفرات، ولكنها بدأت مؤخرا فقط فى العمل شمالى حلب بشكل أكثر فاعلية. دخول جيش الثوار شمالى حلب، جنبا إلى جنب وصلاته القوية بقوات الحماية الشعبية، جعل منه منافسا وربما تهديدا لوحدات الجيش السورى الحر العاملة فى المنطقة، إلى جوار أحرار الشام وجبهة النصرة الأكثر تطرفا. أشعل عدم الثقة التوتر والقتال فيما بعد بين الجانبين. إذن يبقى التساؤل... كيف تنتهى حروب الوكالة؟ الإجابة: تنتهى عندما يحقق أى من الطرفين تفوقا شاملا وسيطرة تمكنه من هزيمة الطرف الآخر. أو عندما يتوافق الطرفان أنه من مصلحتهما معا توقف القتال. سوريا ستحل مشكلتها فقط بتحول كبير فى ميزان القوى الداخلية للحرب، ينتهى بانتصار شامل لجانب واحد (الأمر الذى لا يبدو أنه سيتحقق)، أو اتفاق حقيقى تتقاسمه الأطراف المتناحرة. لكن اعتقاد البعض بأن الصراع فى سورية سيتوقف فقط عندما تشعر الولاياتالمتحدة، روسيا، إيران والسعودية بالتبعات السلبية للحرب، وتخلص كل تلك الأطراف إلى أنه من الأفضل لمصلحتها إنهاءها. هذا الإعتقاد يفترض أن المقاتلين المحليون يعتمدون بالكامل على الدعم الخارجي، وأن تفضيلات الفاعلين من الخارج أهم من تفضيلات المقاتلين المحليين. وهذا غير صحيح فى الحالة السورية... ومصالح معظم السوريين لا ترتبط كثيرا بالانقسامات الطائفية الأكبر فى الإقليم. صحيح أن معظم مجموعات المعارضة جاءت إلى الرياض لرغبتها فى تمثيل جبهة قوية فى عملية المفاوضات، وتجنب وضعها على القائمة السوداء. لكن هذا لا ينفى أيضا أن تلك الجماعات لم تقدم أية تنازلات كبيرة لصالح بعضهما البعض. السلام المؤجل الخلاصة إذن، أن طبيعة الصراع فى سورية سواء أكان حربا بالوكالة أم لا، لا يبعث على الإعتقاد بأن الكلمة الحاسمة ستكون لقوى الخارج... ذلك أن تشظى هيكل الصراع، وكثافة القتال هناك أفضى إلى تعقيدات على الأرض أكبر بكثير من إرادة الوكلاء الخارجيين.. وتكفى الإشارة هنا إلى أن الدمار الشديد فى سوريا، ملايين اللاجئين والنازحين داخليا، وسيطرة العديد من الجماعات المسلحة على المدن، كل هذا يحول دون إجراء انتخابات حرة ونزيهة سريعا. لهذا سيبقى السلام فى سورية مؤجلا.