ماليزيا البلد الهادئ متعدد الأعراق.. النموذج الحى على التعايش ما بين الثقافات والأديان بات يمر بأصعب اختبار لديمقراطيته ولتعايشه، وسط مراجعة عميقة للاسلام السياسى فبالأمس القريب خرجت الأخبار لتقول أن «فيروس داعش» قد وصل إلى أراضى ماليزيا، ولم يعد البلد الهاديء بعيدا عن «أوجاع الآخرين» . كما أن «ماليزيا ما بعد مهاتير» ترفض إلا أن تكون امتدادا لمسيرته، وتحمل جزءا من حكاياته ومعاركه. فمنذ نهاية 2014، والعالم يشهد مع الماليزيين «دراما صاخبة» يقف فيها مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق (89 عاما) على خشبة المسرح يوجه سلسلة من الهجمات لرئيس الوزراء الحالى نجيب عبد الرزاق، ويتهمه بالتسبب فى ضياع مئات الملايين من الدولارات من صندوق الثروة السيادى لماليزيا، والحياة ببذخ، داعيا نجيب إلى الاستقالة من منصبه. وفى المقابل فإن رئيس الوزراء حشد أنصاره فى الرابطة الوطنية الموحدة للملايو (أومنو) الحزب الرئيسى فى التحالف الحاكم بماليزيا واستخدم تظاهرات جماهيرية عدة فضلا عن الوجود الاعلامى المكثف لإظهار حجم التأييد الذى يتمتع به. وفيما يبدو أن ماليزيا تقوم بمراجعة الكثير من الأشياء فى تجربتها، وعلاقاتها التى استقرت لعقود ما بين المكونات، إلا أن أهم رحلة تقوم بها هى علاقتها مع الاسلام السياسي، والتجاذبات التى تفرضها «الرياح القادمة» من بعيد.. وهنا نتوقف مع شخصيات مهمة ماليزية تقدم رؤية جديدة لما يحدث على المسرح السياسى والاجتماعى فى ماليزيا، ويقول لنا د. محمد كمال حسن العميد السابق للجامعة الاسلامية العالمية بماليزيا بوضوح أن ماليزيا بها 60% من السكان من المسلمين، و40% من غير المسلمين (من أصول صينية وهندية)، والآن بات واضحا أن غير المسلمين لا يريدون اقامة دولة اسلامية. ويوضح د. كمال حسن أن الحزب الاسلامى المعارض فى ماليزيا قد تراجع عن أحد أهم شعاراته التى كان يرفعها من قبل ألا وهى «اقامة الدولة الاسلامية«، وبدلا من ذلك فإن شعاره هو اقامة «دولة الرفاهية» فى ماليزيا. ويشير إلى أن المعارضة باتت منقسمة الآن، وأن 13 حزبا فى «الجبهة الوطنية» المعارضة قد انسحب منها 3 أحزاب. ومن الواضح أن الحزب الصينى يشعر بعدم الارتياح، كما أن هناك حالة من التململ فى أوساط جزء من الأقلية الصينية وخاصة الشباب. وربما ليس بعيدا عن الأمر فاننى أخذه إلى قضية «الاسلام الحضاري» التى جرى رفعها من قبل الدولة الماليزية، ويقول د. كمال حسن أن الاسلام الحضارى جرى الترويج له من قبل رئيس وزراء ماليزيا السابق عبد الله بدوي. ويتوقف الرجل ليقول أن الدولة مجرد جزء صغير من الحضارة، ومن وجهة نظره فإن الحضارة تعنى المجتمع المستقر والاقتصاد الجيد والعلوم والتكنولوجيا والفنون والجيش والعلاقات الجيدة مع الجيران. ويشرح لنا أنه بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر جرى حوار طويل يذهب إلى أن «الاسلام السياسي» هو السبب فيما حدث، ورأى البعض أن الحل فى الاسلام الروحانى مثلما أوصى بعض الصوفيين ويكشف عن أن بعضا من دوائر الحزب الحاكم طلبوا من بعض العلماء المتخصصين فى العلوم الاسلامية أن يتم دراسة الظاهرة التى أفرزت أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وخلص هؤلاء إلى أن «الاسلام الحضاري» هو الحل. ولا تتوقف الاعترافات بل الملاحظات المهمة من قبل أحد أبرز العقول الماليزية على مسيرة الأوضاع فى بلاده. فهو يرى أن حالة من التغير قد حدثت، وهنا يقول أن العقول السلفية فى البلاد قد أصبحت «أكثر عقلانية». ويشير هنا إلى أننا نعيش فى ماليزيا المتعددة الأعراق والديانات، ولقد غيرت «وسائل التواصل الاجتماعي» الناس فى البلاد، كما أن الواقع يقول أن غير المسلمين لديهم «تحفظات قوية» ضد أى شيء اسلامي. والمدهش أن هذا الرجل المستنير يقول بثقة أن «العقول تغيرت» وأن اسقاط «حزب باس» لشعار اقامة الدولة الاسلامية يعد «ثورة كبري» بكل المعايير، فضلا عن رفعه شعار «اقامة دولة الرفاهية». ويرى أن جنوب شرقى آسيا يمكن أن تكون «نموذجا للتعايش» ما بين المسلمين والصينيين والهنود، ويشير الرجل بذكاء «لا تنس أننا نعيش ما بين الهند والصين». وفى واقع الحال فإن منطقة جنوب شرقى آسيا بل آسيا بأكملها هى تجمع للحضارة الاسلامية والهندية والصينية. ومن المثير للدهشة أنه خلال حقبة الاحتلال البريطانى ذهب الطلبة من الطوائف المختلفة إلى مدارس واحدة، وتلقوا تعليما واحدا إلا أن الأمر تغير مع الزمن. لقد ذهب الصينيون والهنود إلى مدارس مختلفة، كما أن هناك الآن البعض من الصينيين والهنود لا يتحدثون لغة الملايو» لغة السكان الأصليين المسلمين ويقول «الآن الميول القومية» قوية للغاية. والمشهد السياسى الحزبى لا يقل تعقيدا، ولا اثارة، ولا مراجعة عن المشهد الماليزى بشكل عام فقد كان الكثيرون يتصورون أن نجيب سوف تكون سنوات حكمه أكثر هدوءا ويسرا، وأنه سيجعل ماليزيا أكثر رخاء وانفتاحا، ويأخذ الديمقراطية إلى بعيد. إلا أن الواقع بتشابكاته كان يفرض وقائع أخري، فقد تمكن تحالف المعارضة بقيادة أنور إبراهيم خلال عام 2008 من أن يكون قريبا من أن يبنى «أغلبية» داخل البرلمان، كما كسب الانتخابات وسيطر على الحكم فى عدة ولايات فى ماليزيا. وفى انتخابات عام 2013 استطاع تحالف المعارضة أن يكسب التصويت الشعبى (51% مقابل 47% للائتلاف الحاكم)، كما أن الائتلاف الحاكم (باريسان ناشيونال) خسر لأول مرة التصويت الشعبى منذ تاريخ استقلال ماليزيا. بل مثلما يقول الدكتور سيد عربى أحد أهم الأكاديميين فى الجامعة الاسلامية العالمية بماليزيا والمشرف على استطلاعات الرأى العام، لقد خسر الائتلاف الحاكم أغلبية الثلثين فى البرلمان، ولكنه تمكن من الحفاظ على الحكم نظرا لطبيعة القوانين الانتخابية. ويقول د. سيد عربى أن الماليزيين معتادون على أن يكسب الحزب الحاكم بأغلبية ثلثى المقاعد، ومن ثم فإنه عندما خسر الائتلاف الحاكم بقيادة نجيب أغلبية الثلثين فإن الثقة اهتزت فى نجيب، والمدهش وفقا للدكتور عربى أن المعارضة يتوقعون أن يكسبوا ويصلوا إلى الحكم وهو ما لم يحدث كما أن نجيب لم يكسب أغلبية الثلثين التى كان يعتقد أنه سوف يكسبها. لذا فإن الطرفين لم يأخذا التفويض الشعبى الذى كانا يسعيان إليه، وهنا يرى د. سيد عربى أن الرسالة تؤكد أن الشعب يريد من المعارضة والحكم أن يعملا أكثر وبصورة أحسن!. وأشار الى أن المعارضة تحكم فى عدة ولايات. وهنا يثور السؤال: ماذا بعد نجيب؟! وهل اهتزت الأرض من تحت نجيب؟!، وفى واقع الحال يرى الكثير ممن التقيتهم أن موقف رئيس الوزراء قوي، ويذهب أنصار نجيب الى التلميح بأن مهاتير محمد ليس فى ذهنه أن يلعب دور «ضمير ماليزيا» بل هو يريد أن يهز الأرض من تحت أقدام رئيس الوزراء لمصلحة ابنه مقريز محمد رئيس وزراء ولاية كيداه!. وفى الوقت نفسه يرى د. سيد عربى القريب من دوائر صنع القرار فى الحزب الحاكم أن حزب أمنو الحاكم قوى للغاية، وأنه حتى لو تعرض موقف رئيس الحزب لهزة فإن هناك نائب رئيس الوزراء السابق محيى الدين ونائب رئيس الحزب حاليا، ووزير الدفاع هشام الدين يقفون فى الصف لتولى المسئولية، ويختتم د. سيد عربى بمحلوظة صريحة وقوية كانت مفاجأة بالنسبة لى إذ يقول «إن الأزهر هو مايربط ماليزيا بمصر». وأحسب أن زيارة جديدة للمستقبل تحتم علينا أن نقلب صفحات الماضي، وألا نختصر «العلاقة مع ماليزيا» ودول جنوب شرقى آسيا فى «العلاقة مع الأزهر».. فهذه مجرد «أحد الوجوه» للعلاقة مابين أحد النمور الآسيوية ومصر «النمر الصاعد بقوة على نهر النيل»، وبالطبع هناك حالة الاعجاب بمهاتير محمد، إلا أن ماليزيا أكبر من شخص واحد، وهناك حياة ومجالات رحبة للتجارة والسياحة والاستثمار، وماهو أكبر من زيت النخيل، وهناك نخبة سياسية، ومجتمع واعد متعدد الاعراق والثقافات يتطلع لأن «نشتبك معه» فى حوار وتعاون كبير خلاق، كما أننا لا يجوز أن نتوقف عند لحظة من الماضي، ففى نهاية الأمر هى «صفحة» لابد أن تطوى ونتحرك إلى الأمام.