نشر معهد دراسات السياسة الدولية الإيطالي «ايسبي»، ورقتين بحثيتين حول مكافحة الإرهاب أعدهما اثنان من أهم القيادات الأمنية الإيطالية، هما ماركو مينيتي وزير الدولة الإيطالي للشئون الأمنية (المخابرات)، وبرونو ميجالي أحد قادة مكافحة الإرهاب، والذي تولى قيادة قوات ال«ديجوس» في ميلانو لأعوام قبل أن تتم ترقيته مؤخرا لمنصب مدير أمن «كالتانيستا» بإقليم صقلية. شارك ميجالي في اعتقال أبو عمر المصري عام 2003، كما تمكن اخيرا خلال قيادته لل «ديجوس ميلانو» من اعتقال أحد المشتبه بهم في هجوم متحف باردو بتونس. الورقتان تكشفان رؤية وتقييم أجهزة الأمن الإيطالي للتحدي الذي يفرضه تنظيم داعش الإرهابي أمام الأوروبيين وأيضا استراتيجية المواجهة اللازمة. يرى مينيتي أن «الإرهاب الإسلامي» حسب تعبيره يمثل التهديد الرئيسي على الأمن الدولي، مشيرا إلى أن ما حدث عام 2014 (إعلان داعش قيام دولة الخلافة) يمثل نقطة قطيعة ايبستمولوجية (معرفية). ويوضح في ورقة تحت عنوان «تأثير التهديد الجهادي على المخابرات» أنه للمرة الأولى تحوز منظمة إرهابية أرضا وتعلن عليها قيام «دولة» ذات جيش. وبحسب مينيتي فإن المجموعات الإرهابية صارت تمتلك قدرات اقتصادية غير مسبوقة من خلال عدة أنشطة في مقدمتها تجارة الموارد البترولية. ورغم أن داعش (يشير إليه مينيتي في ورقته بالدولة الإسلامية) يمثل تهديدا لا يمكن اختزاله، فإن درجة عالية من المخاطر تأتي من تنظيم القاعدة، لمحاولته تأكيد دوره القيادي في الجهاد العالمي.وانتقل مينيتي إلى ظاهرة المقاتلين الأجانب موضحا أن الأوروبيين أو المقيمين بأوروبا منهم، يتم تحويلهم إلى الراديكالية على شبكة الإنترنت في أغلب الأحيان، وعادة ما يكونون في ظروف صعبة اقتصاديا واجتماعيا، ويقررون الانضمام إلى ميدان الجهاد بحثا عن الخلاص الشخصي.وهنا تبرز خطورة العائدين من أرض الجهاد الذين قد يغذون دوائر المتطرفين في أوروبا، أو ينفذون أعمالا هجومية. ويؤكد مينيتي أن هناك مخاطر شديدة من الدعاية الإرهابية (يشير إليها مينيتي ب«الدعاية الجهادية» على شبكة الإنترنت التي تحرض على تنفيذ هجمات بشكل فردي.فلم يعد هناك تسلسل قيادي ذو مركز استراتيجي يحدد الهدف وخلايا تنفذه، وإنما صار الاعتماد على المستوى الفردي بما لديه من مرجعية راديكالية وإرادة للتحرك، مما جعل الأعمال الإرهابية تتسم ب«التلقائية»، وصار من الصعب منع التهديد الإرهابي. وشدد على أهمية مراقبة شبكة الإنترنت التي تلعب دورا مركزيا في ديناميكية نشر الإرهاب (الراديكالية حسب وصفه). وكشف مينيتي عن أن منطقة شمال افريقيا تخضع لمراقبة المخابرات الإيطالية، خاصة ليبيا التي تشهد وضعا متدهورا وخطيرا للغاية، يهدد بأن تتحول مثل الصومال.ويرجع مينيتي التهديد الصادر من داعش ضد بلاده بسبب محوريتها في العالم المسيحي فضلا عن مشاركتها في التحالف الدولي ضده. ويحذر من السقوط في دائرة الخوف، موضحا أن داعش تضع استراتيجية اتصال متأنية نحو الرأي العام لزرع الرعب والرهبة النفسية، وذلك على يد متخصصين في الاتصال. وكشف مينيتي عن أن مواجهة إيطاليا للإرهاب لابد أن تتم عبر عدة مستويات: المستوى العسكري: من خلال المشاركة في التحالف الدولي ضد داعش. المستوى المخابراتي يهدف لمنع وقوع الأعمال الإرهابية.وقد صارت إيطاليا من بين الدول القلائل التي أنشأت نظاما للمشاركة اللحظية للمعلومات، ويتسم بتنسيق داخلى ممتاز، كما يدعم التعاون الدولي المخابراتي.ويتم ذلك من خلال لجنة التحليل الاستراتيجي ضد الإرهاب «كازا» والتي تقوم على التعاون التام بين المخابرات والشرطة، مما يجعلها نموذجا يمكن تصديره لسائر أوروبا. وِثالثا: يعد المجتمع المدني سلاحا آخر في الحرب ضد الإرهاب.ويشير مينيتي إلى أن اسهاما كبيرا يمكن أن يأتي من خلال تنشيط الإسلام المعتدل، وتعزيز الصلاة في المساجد في مناخ عام شفاف، لأن الخطورة الأكبر تأتي من تجمعات الخفاء أوالأسوأ من شبكة الإنترنت.ويدعو مينيتي إلى ضرورة تخفيف الاحباطات وحل مشكلات جزء من المجتمع الإيطالي التي قد تغذي التطرف فضلا عن تعليم القيم الأوروبية.وشدد مينيتي على أهمية المسارات الثلاثة مع ضرورة ضرب التهديد وهو لايزال في مهده لتقليل معدل عدم التنبؤ. أما الورقة التي قدمها برونو ميجالي - تحت عنوان: «تطور التهديد الإسلامي خارج إيطاليا» - فيؤكد فيها أن خيار «الخلافة»- التى أعلنها داعش- لم يكن متوقعا.ويشير إلى أن التقدم العسكرى لداعش( مستخدما اسم الدولة الاسلامية فى الاشارة لها) غير بشكل كبير التوازن الهش في المنطقة.ويعتبر أن تدخل المقاتلات الأمريكية وسائر التحالف الدولى فضلا عن الدعم الإيرانى الشيعي تمكن من وقف توسع التنظيم وبخاصة في عين العرب كوبانى.وينتقل ميجالى لتتبع تطور التهديد الإرهابي (مستخدما مصطلح «الجهادى»).ويشير إلى أن التحقيقات التى جرت في عقد التسعينيات سمحت بتوثيق وجود جذور متنامية في أوروبا للجماعة الاسلامية المسلحة الجزائرية، والجماعتين الإسلامية والجهاد المصريتين، الذين استغلوا الأراضي الأوروبية كخلفية لوجستية أو للأنشطة الدعائية.وأشار إلى أن التحقيقات القضائية منذ عام 1997 وحتى 2001 تكشف عن أن المنظمات التى نشطت في أوروبا تكونت بشكل رئيسي من مسلحين من المغرب العربي وليبيا.وألمح إلى أن مسجد فيالي يينر بميلانو كان قلب الراديكالية التى يقودها مصريون بأوروبا.وبعد التطرق إلى الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق وما تبعها من تنشيط الجماعات الإرهابية لعملائها في الدول الغربية، يتناول ميجالي أحداث «الربيع العربي». فيؤكد أنه بعد نشوب الثورات الشعبية التى انتشرت سريعا في المنطقة، لم تكن هناك أحزاب أو كيانات قادرة على تحويل الحالة الثورية لمشروع سياسي جديد، مما أسفر عن توطيد الحركات الإسلامية في المنطقة بأسرها.وكانت هناك عودة حاشدة للكثير من المنشقين فضلا عن خروج السجناء المتهمين بالإرهاب وهو ما أدى إلى إعادة إحياء «الأصولية» من المغرب العربي وحتى مصر. ويقول ميجالى إن عدم قدرة الطبقة الحاكمة الجديدة في مصر -الاخوان آنذاك- على ايجاد حلول لأزمة البلاد ، قادت إلى انعطاف ترميمي جديد مع حل البرلمان وتولي الرئيس السيسي، ما أفضى إلى عزل وسجن مرسي وغالبية رموز ومسلحي الاخوان.وفي سوريا، يعترف ميجالي بأن الغرب أظهر تعاطفا مع الجيش السوري الحر في البداية، أما اليوم فقد تحطم الخيال الغربي أمام صعود داعش . ويختتم ميجالى بأن المدونات وغرف الدردشة على الإنترنت أصبحت المسار المثالي للتجنيد بعد أن كان في الماضي من خلال حلقات الدروس الدينية. ويكشف ميجالي عن أن القصور الأبرز في أجهزة التحقيق الإيطالية هو نقص وجود إيطاليين ذى جذور من شمال أفريقيا والبلقان والشرق الأوسط ضمن أجهزة التحقيق، كما الحال في سائر أجهزة الشرطة الأوروبية. مؤكدا أن التحليل الفعال للمعلومات لايمكن أن يتم دون معرفة اللغة والعادات والثقافة ضمن مناخ التحقيق. كما يدعو ميجالي إلى قدر أكبر من السماح للأجانب بالعمل في الشرطة مما يمثل أفضل طريق لنزع فتيل صراع الهوية التى تتغذى عليها الراديكالية.