هل تصدق أن إجمالى مدخرات المصريين فى دفتر توفير البريد تصل إلى 150 مليار جنيه! يا قوة الله، 150 مليار جنيه مدخرات لعامة الشعب فى القرى والنجوع والشريحة الدنيا للطبقة المتوسطة فى بر مصر. هل تصدق أن مدخرات هؤلاء البسطاء تمثل أحد المصادر الرئيسية لتمويل الحكومة وهيئاتها العامة وشركاتها القابضة بجلالة قدرها، سواء من خلال بنك الاستثمار القومى أو من خلال الاكتتاب المباشر فى أذون وسندات الخزانة؟. دفتر توفير البريد لا يزال يمثل الوعاء الادخارى الأساسى للفئات التى تتكبر البنوك على التعامل معها. لن أنسى حوارا دار منذ سنوات عديدة فى بنك مصرى عملاق، عندما أصر رئيس مجلس الإدارة على تحميل صغار المودعين بمصروفات سنوية على حساباتهم ووضع حد أدنى للمدخرات التى يمكن احتساب عائد لهم عنها، حيث أكد صراحة أنه لا يريد هذه الشريحة من العملاء.. وأن عليهم أن يتوجهوا لدفتر توفير البريد. جاذبية دفاتر توفير البريد للبسطاء لا ترجع فقط إلى أنه أقدم وعاء ادخارى بالجنيه المصري، يرجع العهد به إلى عام 1901، وأنه يتمتع بضمان الحكومة للودائع وفوائدها، ولكن أيضا لانتشار شبكة مكاتب البريد فى سائر أنحاء البلاد بما فى ذلك أصغر القرى والنجوع، أى الأماكن التى قد ترى البنوك بمعايير التكلفة والعائد أنه من غير المربح الذهاب إليها وفتح فروع فيها. عدد مكاتب البريد حاليا يصل إلى نحو 4000 مكتب. الانتشار الكبير لتلك الشبكة جعلها منفذا رئيسيا لصرف المعاشات لنحو 58 مليون مواطن مصري.. بعض مكاتبها يقدم أيضا خدمات الحوالات الخارجية الواردة للأفراد بالنقد الأجنبى. تطوير مكاتب البريد وربطها الكترونيا ونشر ماكينات الصارف الآلى التابعة لها وتسهيل إجراءات التعامل على الحسابات من أى مكتب، وتطوير الخدمات والأوعية الادخارية المتاحة للمتعاملين والإعلان الجيد عنها والتوعية بها يمكن أن يلعب دورا ضخما فى زيادة تعبئة المدخرات فى مصر فضلا عن تحويلات المصريين العاملين فى الخارج. الحكومة تعلن أنها تقوم بالفعل منذ سنوات باستكمال مشروع ضخم لتطوير الهيئة القومية للبريد وتحديث مكاتبها وربطها الكترونيا. طبعا كل ذلك جميل إلا أن تفعيل دور منظومة البريد فى تعبئة المدخرات يتطلب أيضا نظرة من الحكومة على أسعار الفائدة الممنوحة لأصحاب دفاتر توفير البريد والتى تعرضت للخفض المستمر كى تقتصر حاليا على 8%، فى حين أن معدلات التضخم تدور حول 11%. إذن من يضع مائة ألف جنيه فى صندوق توفير البريد ستعود له وديعته بعد مضى سنة مضافا إليها 8000 جنيه قيمة العائد، ولكن القوة الشرائية للمائة ألف جنيه ستكون قد تآكلت بنحو 11000 جنيه. أى أن صاحب الوديعة يكون قد تحمل خصما فعليا قيمته ثلاثة آلاف جنيه بالتمام والكمال من العائد الذى كان يجب أن يحصل عليه لمجرد الحفاظ على القوة الشرائية لوديعته. الحكومة تتعامل بنفس المنطق أيضا مع أصحاب المعاشات. فلابد وأن نذكر أن أموال المعاشات التى تودعها هيئة التأمينات الاجتماعية لدى بنك الاستثمار القومى يتحدد العائد عليها دوريا بموجب قرار وزير التخطيط رقم 40 لسنة 2013 وفقا لعائد الكوريدور فى البنك المركزي، والذى يبلغ حاليا 8.75%. و هذا يعنى أن المدخرات الإجبارية التى تقتطع من العاملين كى تؤول إليهم عند التقاعد فى شكل معاشات شهرية تحصل على عائد لا يتجاوز 8.75% فى حين أن معدل التضخم يبلغ 11%. أى أن المدخرات الإجبارية لأصحاب المعاشات المودعة لدى بنك الاستثمار القومى يقتطع من عائدها دعما فعليا لصالح الحكومة بأكثر من 20%! هل تفسر أسعار الفائدة السالبة وتآكل القيمة الحقيقية للمدخرات لماذا يقع المواطنون فى شراك كل من يلوح لهم بتوظيف أموالهم بعائد مرتفع؟ ... الحكومة سلطتها نافذة، فى حين أن القاعدة العريضة من صغار المودعين وأصحاب المعاشات ليس لهم حول ولا قوة.. تتزايد الفجوة بين ما يحصلون عليه من عائد وبين معدلات التضخم و تتآكل القيمة الحقيقية لمدخراتهم ويتم التعامل مع الأمر باعتباره قدرا محتوما، ففى النهاية أين سيذهبون بمدخراتهم؟ أما كبار المدخرين فلا توجد لديهم مشكلة، المجالات المفتوحة أمام مدخراتهم متعددة من بناء العمارات إلى المضاربة على الأراضى والمعادن النفيسة والتعامل فى البورصة.. حتى إيداعاتهم فى البنوك تحصل على عائد مميز باعتبارهم من كبار العملاء. العبء دائما يقع على صغار المدخرين وأرباب المعاشات. الحكومة تشكو لطوب الأرض من انخفاض معدل الادخار المحلى وعجزه عن تغطية معدلات الاستثمار المتواضعة الحالية، ناهيك عن الاستثمارات اللازمة لرفع معدلات النمو إلى 7% أو 8% وخلق فرص العمل لاستيعاب جيوش العاطلين. السبب الرئيسى لانخفاض معدل الادخار المحلى هو ببساطة عجز الموازنة العامة للدولة الذى يعنى أن الادخار الحكومى سالب!. أما فيما يتعلق بالادخار العائلى فيلاحظ أن الجزء المتاح منه لتمويل الاستثمار هو فى الواقع ما يتم توجيهه إلى أوعية الادخار الرئيسية لدى الجهاز المصرفى ،بالإضافة إلى مؤسسات التأمين الإجتماعى وتوفير البريد وسوق الأوراق المالية. ويعنى ذلك أنه يمكن أن تكون هناك فرصة لرفع معدلات الادخار العائلى والادخار المحلى ككل من خلال حزمة من السياسات الواعية من جانب الحكومة والجهاز المصرفى يأتى فى مقدمتها الحفاظ على أسعار فائدة موجبة على الودائع وبوجه خاص صناديق توفير البريد. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى