«مارك زوكربيرج» الرئيس التنفيذى لموقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، الأمريكى الجنسية، واليهودى الديانة، انحاز لمعسكر الحق والانصاف بإعلانه دعمه المسلمين فى الولاياتالمتحدة والعالم، ردا على الحملة العنصرية الشرسة التى يتعرضون لها، منذ هجمات باريس الإرهابية ومن بعدها «سان برناردينو» بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وأخيرا تصريحات المرشح الرئاسى الأمريكى المحتمل دونالد ترامب النازية. ترقبت مليا، راجيا أن يرد المسلمون والعرب تحية «زوكربيرج» بأحسن منها، لكننى لم أجد سوى الصمت المطبق، فلا حس ولا خبر، اللهم إلا بعض التعليقات الشاردة والاشادات المتناثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، مع أن الرجل أهدانا درسًا لا يُقدر بثمن، لم نحسن التدقيق والنظر فى تفاصيله ومغزاه، فى وقت لا نكف فيه عن الشكوي، واتهام الغرب المنفلت المتغطرس باضطهاد الإسلام وملاحقة معتنقيه، والربط التعسفى بينه وبين الإرهاب، وحينما تساندنا شخصية رفيعة لها صوتها المسموع فى بقاع الأرض، مثل زوكربيرج نتجاهلها، ونحجم عن استثمار موقفها شديد الايجابية فى تحسين وتنقية صورتنا، التى تتعرض لتشويه مستمر فى الدوائر الغربيةوالأمريكية فى ظل مناخ يذكرنا فى جانب منه بما كان سائدا فى عهد هتلر النازى بألمانيا. موقف «زوكربيرج» نبع من ايمان لا يتسرب إليه الشك بحزمة من المبادئ والقيم الانسانية والدينية، التى نتغنى بها طوال الوقت فى مجالسنا ووسائل إعلامنا ومنابرنا، بدون أن تدخل حيز التطبيق العملي، فهو يؤمن ايمانًا صادقًا بأن صالح وصلاح المجتمعات فى التعددية والتنوع بكافة أشكالها ومستوياتها، تعددية وتنوع فى الديانات، والاعراق، والعادات والتقاليد، والأفكار والرؤي، واطلاق العنان للابداع والابتكار والطاقات المكبوتة بدون محاذير وقيود، فكل ما سبق يشكل رئة صحية تغذى مفاصل المجتمع وتجدد خلاياه وشرايينه باستمرار بما يحول دون تعرضه لجلطات تضعف جسده وتعوقه عن النهوض والانطلاق. تلك المفاهيم يتربى عليها الصغار فى أمريكا وغيرها من البلدان المتقدمة، وتغرس بذورها مبكرًا بالبيت والمدرسة والجامعة، وتطبقها فعليا الأكثرية الغالبة، ولا يشذ عنها سوى بعض المهووسين والمتطرفين. قارن هذا الوضع بما نحن عليه، فحالنا لا يسر مطلقا، لأن أفعالنا وتصرفاتنا مقطوعة الصلة بمبدأ قبول الآخر، وأن التعددية تثرى مجتمعنا وتمكنه من استنشاق هواء نقى يخلصه من التلوث المتراكم من رواسب وعوادم التخلف، والجهل، والسير على طرق الاتجاهات الواحدة الوعرة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وكذلك دينيا. انظر مثلا إلى الجماعات الإسلامية، فهى ليست على قلب رجل واحد، ومن متابعة حركاتها وسكناتها تكتشف مخاصمة معظمها فكر التعددية، الذى تجسده وكأنه رجس من عمل الشيطان، فهى تريد اتباعا يقلدون وينفذون ما يقوله مشايخهم بدون تفكير ولا مراجعة، وكل جماعة تؤكد وتجزم بأنها صاحبة الطريق القويم والهداية وما دونها أغيار غير فاهمين لأصول الدين ومراميه، ويسعون لكى يصبغوا مصر كلها بلونهم المفضل، ويفرضوا على الناس مقاساتهم وتفسيراتهم للدين الحنيف، وما يثير الدهشة أنهم جميعا يتحدثون عن وسطية واعتدال الإسلام. فجماعة الإخوان الإرهابية تعتبر نفسها الأمينة والحافظة للإسلام، وهى الجماعة الأم الأحق بالقيادة واللحاق بركبها، وأن مَن ينضم إليها اهتدى لطريق الحق والصواب، وتحبذ التعالى والاستكبار فى تعاملاتها مع المحيطين بها، وعندما تجلس مع السلفيين يؤكدون أن غيرهم من المضلين العابثين بالدين، وأنهم يسيرون على درب الهدى والصلاح بفضل اتباعهم نهج وتعاليم السلف الصالح، فى حين تكفر جماعات الجهادية السلفية الجميع الذين تنعتهم بأنهم أهل باطل وضلال وتجيز قتالهم، وتستبيح أموالهم واعراضهم. هم يريدون الرأى الواحد، والصوت الواحد، والاتجاه الواحد، ويجمعون فيما بينهم على ثلاثة أمور، الأول مقاومة التجديد، فمَن يتكلم عن تجديد الخطاب الدعوى يناله ما يناله من العنت والتشهير، والثانى تأجيج الصراعات المذهبية بين السنة والشيعة وما جرى فى أبو النمرس من سحل وقتل همجى لنفر من الشيعة ليس ببعيد عن ذاكرتنا، والثالث التركيز على البعد الطائفى من خلال اصدار فتاوى تخص العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، والافتاء بعدم جواز تهنئتهم بأعيادهم ومشاركتهم أفراحهم. إن وليت وجهك شطر الجماعات السياسية فلن تجد ما يسر على الاطلاق، فحالهم كحال نظرائهم بالجماعات الدينية، فهم لا يبغون التعددية ولا يحزنون، فالشاهد أنهم يرسخون لمبدأ الحزب الواحد، فالذين يؤسسون ائتلافا فى مجلس النواب الجديد تحت اسم «دعم الدولة» لم يفطنوا إلى أنهم يعدون نسخة مماثلة للحزب الوطنى الذى كان موضع رفض وحنق الجماهير الغفيرة، وأن حدوث ثورتين فى مصرنا يستلزم العمل بجهد لا يتوقف لكى تكون التعددية هى شعارنا وملاذنا، فالمحروسة قاست وتعذبت بنظام الحزب الواحد ولا يقبل عاقل عودته مجددا أيا كانت الأسباب والمبررات والعلل، ويجب أن يدركوا أن الدعم الحقيقى للدولة يتم عبر حسن الأداء البرلمانى والالتزام بآليات المراقبة والمحاسبة، ولم يعد مقبولا بأى حال من الأحوال أن يوجد بيننا من يفكر بعقلية احتكار الوطنية. والشق الأهم والاجدى فى التعددية أن يكون انحيازك بالأساس للمبدأ كقيمة وليس الأسلوب الانتقائي، فإيمانى بالديمقراطية، وحرية العقيدة، وحقوق الانسان لابد أن يكون ممتدا وشاملا وليس خاصا، فإن كنا نواجه الإرهاب ونلعن صباحا ومساء الذين يقدمون عليه فحتما سريان ذلك على الكل، إذ لا يجوز مثلا إبداء الغبطة والفرح لمهاجمة واشنطن ونيويورك، وباريس ولندن، والتماس الاعذار للإرهابيين الذين يقتلون أبرياء لا ذنب ولا جريرة لهم سوى الوجود فى موقع العملية الإرهابية الخسيسة، فلا مكان للازدواجية والكيل بمكيالين.