أواصل فى هذه المقالة حديث الأربعاء الماضى، فأكمل ما بدأته، وأفصل ما أجملته بقدر ما تسعف المادة وتتسع المساحة. لقد أردت فى هذا الحديث أن أكشف زيف الشعارات التى ترفعها جماعات الإسلام السياسى وتبرر بها تطرفها وعدوانيتها وخلطها الدين بالسياسة وحربها المعلنة على الدولة الوطنية وعلى الديقمراطية وعلى العقل وحقوق المرأة وحقوق الإنسان. إنها تنسب هذه المبادئ للغرب الذى يعمل على نشرها كما ترى لتحل محل الثقافات والحضارات الأخرى وتصبح فى يده سلاحا مسموما يستخدمه فى السيطرة على العالم. فهى تغريب، أى مسخ للهوية وتشويه لها وغزو ثقافى يجب أن نتصدى له ونقاومه. بل هى فى نظر هذه الجماعات كفر صريح، لأن الديمقراطية هى حكم الشعب. والحكم لا يكون إلا لله. فإذا جعلنا الشعب حاكما فقد أشركنا. والديمقراطيون إذن كفار مشركون علينا أن نحاربهم ونعيد الحق إلى نصابه ونرده لأصحابه، أى لهذه الجماعات الإرهابية لأنها هى التى تتحدث باسم الله وتطبق شريعته. أما نحن المواطنين أو نحن الرعايا، فليس أمامنا إلا أن نسمع لهذه الجماعات ونطيع!. هكذا تفهم هذه الجماعات المتخلفة الحضارة الحديثة. وهكذا تفهم الإسلام، وهكذا تفهم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين. الحضارة الحديثة التى قامت على العقل والعلم وحرية التفكير والتعبير والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها فى خدمة البشر واحترام الإنسان والإيمان بقدرته على تحرير نفسه وتثقيف عقله والتحكم فى شئون دنياه.. هذه الحضارة فى نظر جماعات الإسلام السياسى بضاعة أجنبية علينا أن نقاطعها ونحاربها وإلا فقدنا خصوصيتنا وحصانتنا وأصبحنا هدفا سهلا للغربيين، والديمقراطية كفر وشرك وعلينا إذن أن نرضى بحكم الطغاة المستبدين لكى نظل مؤمنين موحدين. والعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين صراع أبدى وإرهاب شرعى، بل هى كذلك بين هذه الجماعات الإرهابية وبين من يخالفونها من المسلمين، وإذن فالحرب معلنة على العالم كله. الحرب معلنة فى مصر وتونس وليبيا وسوريا والعراق ولبنان ونيجيريا ومالي. ونحن نتابع أحداثها التى أصبحت يومية، ونرى ضحاياها من المسلمين وغير المسلمين، المسيحيين واليزيديين، العرب والأفارقة، الروس والفرنسيين. هذا الخطر الداهم الذى يتعرض له البشر الآن، ليس على جبهات القتال، بل فى المطاعم والمسارح وملاعب الكرة والطائرات والسيارات والطرقات. الرجال، والنساء، والأطفال، وحراس الأمن وحراس العدالة هذا الخطر الداهم علينا نحن قبل غيرنا أن نتصدى له وننقذ بلادنا وننقذ العالم منه، وذلك بخطاب دينى جديد أو بثورة دينية تحرر الإسلام من فقه العصور المظلمة وتقتلع هذا الفقه من جذوره، وترد للإسلام روحه النقية، وتكشف عن إنسانيته العابرة لحدود الزمان والمكان. فالإسلام ليس لعصر وليس لبلد وليس لجيل، بل هو لكل البلاد، ولكل العصور، ولكل الثقافات ولكل الأجيال، يأخذ منها بقدر ما يعطيها، ويغتنى بما تحققه الانسانية كلها فى سعيها الدائم للسعادة والحرية. ومن هنا كان التفكير فريضة إسلامية كما قال العقاد، يؤديها كل مسلم ولا تحتكرها جماعة أو سلطة أو مؤسسة. لأن احتكار التفكير منع للتفكير وخوف من نتائجه التى لابد أن تزعزع أركان الطغيان، وقد رأينا كيف أغلق الطغاة المسلمون وفقهاؤهم المأجورون باب الاجتهاد وفرضوا علينا هذا الفقه الأعمى الذى أعلنوا فيه الحرب على العقل وجعلوا كل شيء جبرا وإرغاما، ونفوا فيه الإنسان وأنكروا عليه حقه فى أن يجتهد أو يختار، وسجنوه فى عبودية قاتلة لا يستطيع معها أن يفكر لنفسه أو يغير حياته أو يرسم مستقبله. ونحن لم نصح الآن فقط على هذا الوضع البائس الذى نعيش فيه، وإنما صحونا عليه منذ اصطدمنا بالغرب ورأينا كيف تقدم وتخلفنا، وكيف تحرر وبقينا نحن مستعبدين . لكننا لم ننجح حتى الآن فى الخروج مما نحن فيه . وقد آن لنا بعد قرنين من التردد والتخبط خسرنا فيهما الكثير أن نحزم أمرنا ونخرج. نعم، نحن مطالبون أمام أنفسنا وأمام العالم بأن نثور على هذا التراث العبودى وأن نحرر أنفسنا منه وننقذ أجيالنا الجديدة من أن تواجه ما واجهناه، وما لا نزال نواجهه حتى الآن. نحن مطالبون بالإجابة على هذا السؤال: هل صحيح أننا نحن المصريين ونحن العرب والمسلمين لم نشارك بأى نصيب فى الحضارة الحديثة كما تقول جماعات الإسلام السياسى لأن المبادىء التى قامت عليها هذه الحضارة لاتهممنا ولا تعنينا؟ لكن هذا السؤال ليس مطروحا علينا من جماعات الإسلام السياسى وحدها ، وإنما هو مطروح علينا أيضا من الجماعات التى تماثلها فى أوروبا وفى الغرب بشكل عام، فالغرب لا يخلو هو أيضا من نزعات عنصرية ومن قوى عدوانية متطرفة تكره العرب والإسلام وتتوارث هذه الكراهية وتعبر عنها فى الثقافة وفى السياسة وفى المجتمع. حين نقرأ الآن ماكتبه البيزنطيون فى القرن الثامن الميلادى عن الإسلام وعن نبى الإسلام، وما جاء فى «أغنية رولان» الفرنسية التى ظهرت منذ حوالى تسعة قرون نستغرب أن تكون هذه الخرافات هى الاسلام كما تصورته أوروبا من شرقها إلى غربها. وإذا كنا نستطيع أن نتسامح مع المغنين الجوالين الذين عاشوا فى العصور الوسطى الأوروبية وقدموا عن الإسلام هذه الصورة الخرافية فنحن لا نستطيع أن نتسامح مع مفكر عظيم مثل فولتير الذى عاش فى القرن الثامن عشر ودافع فى معظم ما كتب عن العقل والحرية، لكنه كتب مسرحية عن «محمد» جعله فيها رمزا للكنيسة وهاجمه بعنف شديد. ونحن نعرف ما كان يقوله النازيون عن الجنس الآرى وعن نقائه وتفوقه على بقية الأجناس البشرية التى شن عليها النازيون حرب إبادة، ونعرف ما صنعه المهاجرون الأوروبيون فى أمريكا مع الهنود الحمر، ونعرف ما كان يقوله الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون والإسبان فى تبرير استعمارهم لآسيا وإفريقيا، ونعرف مايصنعه حزب لوبن فى فرنسا والأحزاب العنصرية المماثلة له مع المهاجرين العرب فى أوروبا. هذه الأحزاب تنكر علينا هى الأخرى أننا شاركنا بأى نصيب فى حضارة العصور الحديثة، والفرق بينها وبين جماعات الإسلام السياسى أنها، أى هذه الأحزاب الغربية، تستكثر علينا هذه المشاركة التى لا ترانا أهلا لها، أما جماعات الاسلام السياسى فتتبرأ من المشاركة فى هذه الحضارة الحديثة التى تعتبرها وثنية وتعلن عليها هذه الحرب الهمجية، وهكذا نجد أنفسنا الآن محاصرين بين من يريدون أن يعيشوا وحدهم فى هذا العصر ومن يريدون أن يبقونا فى عصور الظلام. لكننا مع هذا مطالبون بالإجابة على السؤال! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي