«أتركوا الأبواب مفتوحة، ليخرج الحزن. ولتدخل السيدة.» (مريد البرغوثي، كلية آداب جامعة عين شمس، 13 يناير 2015) يرتبك حزني، لا يدرى ماذا يفعل؟! هل يبقي؟! هل ينصرف؟! كم أنت مسكين أيها الحزن!! طال بقاؤه دون جدوي، يشفق عليّ منذ أن استيقظت فى اليوم الأول من ديسمبر الماضى وعلمت بخبر انتقال د. رضوى عاشور من دار الباطل والفناء إلى دار الحق والبقاء! منذ ذلك الوقت وهو رفيقي، يلازمني، يحتضننى ويربت على كتفى عبثا كى أتجلد!! هو حزن فحسب! لا أكثر ولا أقل!! ماذا يعرف عن التجلد؟!! ... أعترف بأنى أتسبب له فى حيرة!! لا يعلم حزني سوى الحزن! لا خبرة لديه سوى بكينونة حزنه، هكذا خٌلق!! لا يعلم سوى الانكسار والانحسار والانسحاب والهزيمة! حزنى ودود.. عشرة عمر، التقينا بتحفظ- فى «ثلاثية غرناطة»، لكننا تقاربنا إلى حد ما عندما قرأنا معا «أثقل من رضوي». عندما انتهيت من قراءة السيرة أوعز إليّ أن أشرح لها ماذا فعلت بنا! أرسلت إليها رسالة إلكترونية أشكو منها إليها!! طرحت عليها السؤال: هل يحق لكاتب مهما تبلغ موهبته أن يتسبب لقارئه (صديقه) فى كل هذا الألم؟! أربكها سؤالى واعتذرت لي.. لكنها شرحت لى الدرس بحزم الأستاذة وحنو الأم.. الكتابة هى الكتابة، إثارة مشكلات، تقليب مواجع، نكء جراح.. ثمن الوعى الذى يجب أن ندركه وإلا فمرحبا بحياة القطة الشيرازى المنعمة بوهج أشعة الشمس الدافئة على فرائها الأبيض الناعم. نهرت حزنى عندئذ، كيف أطعته عندما كتبت إليها أشكوها لأنها وضعتنى فى مواجهة حرجة معه؟ لم يرد كعادته وجلس متخاذلا فى الزاوية. هو حزن خائب.. صامت كل الوقت. يكتم دمعا أو يذرفه. سمح بخيبته لضعف متكلس أن يأخذ فرصته ويتصدر المشهد!! يا لك من حزن أخرق!! أرأيت ماذا فعلت؟! استسلمت وتنازلت حتى صار الضعف هو السيد! هل رضوى تعرف؟! ويل لك إن عرفت!! ماذا ستقول لها حين تراك؟ خذ حذرك.. ستكفكف دمعك ثم تؤنبك. رضوى لا تسمح بهزيمة. عليك إذا أن تكون جديرا بها وإلا.. ارحل. يعلم هذا الحزن أن رضوى حكاية أخري.. رضوى حكاية مكتملة من بقاء وإصرار ومقاومة وانتصار. منذ رحيلها رأيتها عدة مرات.. نعم رأيتها.. تصعد درجات حجرية عسيرة أكبر من خطوتها الصغيرة المرتبكة ثم تهبطها، ترعى زهورا تفتحت على يديها فى أحد شوارع العاصمة، ترأس اجتماعاً، تدق بقبضة يدها على مائدة اجتماعات من خشب الزان وتقول بصوت ثابت وحاسم:»لا يا دكتور، جانبك الصواب!» تتسوق أوشحة بدوية مطرزة بألوان زاهية لتوزعها على أحبائها، تستضيفنى فى بيتها وتغمرنى بالهدايا، نقلب معا فى مخطوطات نادرة عن انتصارات عربية قديمة ولكن حقيقية، تزورنى فى مقر عملى مع صديقات لها، وتقدمنى لهن بفخر، نجلس فى مقهى أسألها عن أقرب أعمالها إلى قلبها، تشير لي أن أنظر أمامى على المائدة فأجد نسخة من «الطنطورية» ظهرت فجأة بيننا. أرفع رأسى وأسالها «حقا؟!» فلا ترد وتبتسم فى صمت ماكر. تلتقى بى مصادفة فى طريق متسع ونظيف تظلل جانبيه أشجار الأكاسيا المزهرة، أفرح بلقائنا وأتعجب، أسألها: ولكن..؟!! ماذا عن...؟! الخبر ليس صحيحا إذا؟! تبتسم وتقبلنى وتصر أن ترافقنى فى طريق عودتى إلى المنزل خوفا على من الاضطرابات فى الشوارع!! ... لا يعلم حزنى كم أشعر بالبهجة والفرح والفخر كلما ألتقى الدكتورة رضوى أو أسمع صوتها أو أراها تلقى محاضرة حتى فى غفواتى ويقظاتي!! لكنه يشفق على كلما أمد يدا إلى رف المكتبة الذى يحمل مؤلفاتها، أمسك بالكتاب وأفتحه وأقرأ الإهداء، ثم أديره بين يديّ وأنظر إلى صورة السيدة ذات الملامح الدقيقة، والعينين الواسعتين المعبرتين. فيقوم حزنى الكسول من مكانه ويبدأ فى أداء طقوس واجب المساندة عند الشدة، يعلم أنى سأفتح الكتاب لأقرأ سطراً منه أو سطرين أو أكثر فتدمع عيناى وأكاد لا أتبين السطور، يشرع عندئذ فى مواساتى فأزيح يده عن كتفى ضجرة، لا أريد تعاطفه الأجوف، أريد أن أتعلم كيف أقرأ كتابى فأسمع صوتها مجددا. تتكرر المحاولة ولا تنجح نجاحا كليا، فى كل محاولة يتقدم الحزن ويتدخل محاولا تقديم يد عون لا أريده. لا يظهر الحزن وحده، ينضم إليه، رغم أنفه، الإحباط والفقد، ينظر إليّ لا حول له ولا قوة، يرفع كتفيه كأنه يقول لى « وماذا أفعل لهما!؟» أعتاد على وجودهما معه.. أتجاهلهما، وتدريجيا أحاول أن أتجاهله هو أيضا. فى الجامعة.. يجلس الحزن على كرسيها خلف مكتبها الخشبى الصغير الأنيق، ينبسط تحت سطح المكتب الزجاجى ملصق أبيض وأسود للفنان برهان كركوتلى تحتشد فيه مآذن وقباب وأبراج كنائس وتتوسطه دائرة كتب عليها «القدس لنا.. والنصر لنا»، وتتراكم فى كومة صغيرة على جانب سطح المكتب بعض المطبوعات. يجلس الحزن الخامل صامتا، لا يتأمل الملصق وتفاصيله المنمنمة مثلي، ولا يدفعه الفضول ليقلب فى المطبوعات لعله يعرف ماذا كانت تقرأ رضوي.. هو حزن ذو انضباط رخو يؤدى واجبه الروتينى فحسب!! لا أحبه (حزني) لكنى أشفق عليه من ركاكة طقوسه الخرقاء!! أعلم أن يوم فراقنا قد اقترب، سيكون ذلك اليوم الذى أمسك فيه أخيرا بكتاب لها بيدين ثابتتين وأرى صورتها على غلافه الأخير واضحة وناصعة مثل الأصل، ودون أن تغشى الدموع عينيّ سأتأمل ألق عينيها الجذابتين، وابتسامتها الراضية، والسر المكنون فى ملامح وجهها الدقيقة، وأقرأ كلماتها المهداة لى بخط يدها تتصدر صفحة العنوان الداخلية بفخر دون أن أسمح لنصل الهزيمة أن يخترق قلبي... عندئذ سأكون قد انتصرت على حزنى الخائب وأصبحت جديرة بها. متفهما.. وحتما صاغرا سيقوم الحزن عندئذ من على كرسيها ليفسح المكان لها وأجلس أمامها ونستكمل حوارنا . لمزيد من مقالات د .كرمة سامي