واحدٌ وستون عاماً مضت من عمر القاهرة، غير أن ديسمبر من كل عام يُذَكِّرُ (صناع السينما) و صائغى وعى الوطن، ومعهم عموم الخلق، أن مصرياً مبدعاً من أبناء مصر هو المخرج كمال الشيخ، التقط حادثة قرأها فى صحيفة، وأوجز حولها فكرة لينقلها إلى الكاتب الراحل على الزرقانى الذى نسج من الفكرة قصة، صاغ لها السيناريو والحوار كمال الشيخ وبدأ مشاوراته مع المنتجين حتى تحمست الراحلة آسيا للعمل، وبدأ تصوير الفيلم ليشهد شهر ديسمبر 1954 ميلاده الأول (حياة أو موت). واحدٌ وستون عاماً من عمر مصر وعاصمتها، لكن ذاكرة هذا العمر لم يسقط منها ذاك النداء الذى انطلق مدوياً (من حكمدار العاصمة إلى المواطن أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس، لا تشرب الدواء الذى أرسلت ابنتك فى طلبه، الدواء فيه سم قاتل، عند سماعك هذه النشرة بلغ الحكمدارية، وعلى من يعرف أحمد إبراهيم المذكور المبادرة بتحذيره، إذا كان قريباً منه أو إخطار الحكمدارية فوراً).وبعد عدة أشهر كان الفيلم يعرض فى مهرجان (كان السينمائى الدولي)، حيث دوى تصفيق نجوم العالم وكبار نقاده مع نهاية الفيلم وإنقاذ الشرطة المصرية ل (المواطن أحمد إبراهيم)، صفقوا تحية للإنسان المصرى الذى يدرك قيمة الحياة، ولإنسانية جهاز الشرطة الذى قرر أن يسخر كل طاقاته لإنقاذ (مواطنه الإنسان)، واستسلموا لواقعية سحرية صنعتها عدسة المبدع كمال الشيخ فأحالت شوارع القاهرة وأزقتها إلى استديو تصوير مفتوح. صفق العالم للفيلم عندما تكامل إبداعه مع واقعه ليرسم لوحة إنسانية لدولة يصنفونها ضمن (العالم الثالث)، استطاعت أن تقدم لهم دفئاً إنسانياً تأكله برد ماديتهم التى كانت تزحف قبل أن تستلب منهم كل شيء اخيرا. تفرض هذه الذكرى السينمائية حضورها على واقعنا، لتحتم علينا إعادة النظر فى مكوناته، التى بدلت أسئلة عصور الفساد والإفساد ملامحه، حتى تحولت مصر التى جسدها (الشيخ) فى (بين الحياة والموت)، والتى صفق العالم لها احتراماً وانبهاراً، إلى حلبات فوضى تتسع بعدما اكتشف مواطنها (أحمد إبراهيم) القاطن فى كل شارع أو حارة أو نجع، أنه غير آمن على وصول دواء لعلله، وغير واثق من أن هذا الدواء ليس فيه سم قاتل، أو أن حكمدار العاصمة يعبأ بأوجاعه، هذا علاوة على غياب (كمال الشيخ) الفنان الحالم بنموذج الوطن الذى ينبغى أن يكون، ويسعى لتجسيد حلمه شريطاً سينمائياً يوقظ ضمير كل (حكمدار)، ويعيد الثقة إلى كل (أحمد إبراهيم)، ويترجم دور الدولة الراعية فى أداءات تتفاعل كلها من أجل حماية المواطن الإنسان. إن الحديث عن فيلم (حياة أو موت) فى هذا التوقيت الفارق من حياة أمتنا، يتجاوز محاولة التأريخ لعمل فني، إلى كونه شعار مرحلة، فكل مواطن على ظهر المحروسة هو (أحمد إبراهيم)، وكل مسئول فى هذا الوطن هو (حكمدار العاصمة)، وكل عالم دين أو سياسى أو إعلامى أو مبدع أو متصدر للمشهد بأى طريقة، هو الصيدلانى الذى أخطأ فى إعداد الدواء وعليه أن يصلح خطأه. مصر الآن تحيا واقع (حياة أو موت)، وحجم الأدوية المسمومة الواردة إليها، فى منشطات دينية أو أقراص سياسية أو حقن ثقافية أو حتى (لبوس) سياسي، كلها يتجاوز قدرة كل حكمدار، ويعلو فوق وعى كل مواطن، الأمر الذى ينذر بتعاظم التهديد المحدق بالوطن، ويصبح الخيار المطروح على كل أبناء هذا الوطن هو (حياة أو موت). وبالتأكيد يحتم هذا الخيار المصيرى على كل راعٍ حكمدار- دعم حِمَاهُ بأقصى طاقته، على أن يكون أول إجراءات هذا الدعم، أن يملك جسارة الاعتراف بعوار أصاب طاقته خلال عصر الفساد والإفساد، وأحال كل راعٍ إلى موظف، آمن على كرسيه، روتينى فى طرحه، مُتَّكِلٌ على كل الأدوات التى لا علاقة لها بصميم عمله. وهذا الاعتراف الحتمى ينبغى أن يتم أول ما يتم بين يدى ضميره الشخصي، حتى يتحول إلى طاقة قادرة على صياغة وعى مرءوسيه الذين أصابهم ما أصابه. (حياة أو موت) إنه الواقع والخيار الذى يتجلى فى بناية تسقط على رءوس قاطنيها، بعدما تجاوزتها قوانين عصر الفساد والإفساد، والذى نراه فى جند يجتث أرواحهم المرابطة تكليف أعمى بالموت أصدره أمير وهمى جاءه الوحى من لندن أو واشنطون. والذى نعاينه كلما تابعنا خبراً عن تجاوز لضابط -أو أمين شرطة أو حتى عسكري- ممن غير زمن الفساد والإفساد عقيدتهم الأمنية فتحولوا من خدمة الشعب وتأمينه إلى استعباده. وهو كذلك الخيار المصرى الذى يلمسه كل مواطن فى دوائره، حيث تسهدفه خطة (إنهاك ثم إرباك ثم إفشال للدولة المصرية)، وضعها التنظيم الدولى وينفذها المغيبون بفعل دين التنظيم وبيانات الكُره والدم والثأر، فينشرون الشائعات ويخربون الشبكات ويصنعون ثم يضخمون الأزمات، سعياً لتسقط مصر وليحيا التنظيم بعد ممات. (حياة أو موت) خيار يحتاج إلى راعٍ حكمدار-، وخاصة فى دوائر الأمن، يزيح علل الفساد والإفساد من فوق شخصية رجل الأمن المصري، ويعيده إلى أصل مهمته (خدمة الشعب وحمايته)، ويرسخ فى صفوف جنده، أن وطنيتهم التى تفرض عليهم فى هذا التوقيت حمل أرواحهم أكفهم كلما خرجوا من دورهم، تؤهلهم بالتبعية للإيمان بأنهم فى ساحة (جهاد وطنى صرف)، ليأمن كل مواطن على حياته، وليكون هذا المواطن بين يدى القانون الذى يمثله كل حكمدار أكثر أماناً. ولا يُعد حصر الخيارات المطروحة على مصر والمصريين فى (حياة أو موت)، ضرباً من ضروب المبالغة، وعلى من يتشكك أن يراجع الصورة التى يتم تصديرها (أنجلو أمريكاً) ويسوق لها الإخوان عن مصر، أو يتابع العلاقة بين وسائل الإعلام الأمريكية والإخوانية والداعشية، ليتأكد أننا نحيا زمنا كلنا فيه أحمد إبراهيم، وكل مصر دير النحاس، وكل فرد فى الجيش أوالشرطة حكمدار، وكلنا شاركنا فى صناعة الدواء المسموم وتجرعنا بعضه، وعلى الجميع أن يتشاركوا فى الإغاثة. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى