كانت الإدارة الأمريكية تتابع بمرارة اندفاع أوروبا خلف بوتين للمشاركة في ضرب تنظيم داعش وغيره من الجماعات التكفيرية في سوريا، عقب هجمات باريس الدامية، لأنها تدرك أن الرابح سيكون التحالف الروسي، وأن الأسد سيبقي في الرئاسة، لأن إبعاده لم يعد أولوية أوروبية، في ظل الرعب الذي يجتاح العديد من دول أوروبا من تكرار الهجمات الإرهابية علي أراضيها، وكذلك كانت الحسرة تعتصر أردوغان وهو يري الطائرات الروسية تضرب رعاياه من الإرهابيين الذين ينكر نسبهم في العلن ويدعمهم سرا، كما دمرت الطائرات الروسية نحو ألف صهريج لنقل النفط من مناطق سيطرة داعش إلي تركيا، التي كانت تدر علي أردوغان أرباحا هائلة، ولهذا أقدم علي اسقاط السوخوي 24 في كمين، وصفه الرئيس الروسي بوتين بأنه طعنة في الظهر، مشيرا إلي أن الطائرات الروسية كانت تبلغ أمريكا بمهامها ووجهتها قبل الانطلاق، وهي إشارة إلي ضلوع أمريكا في حادث إسقاط الطائرة الروسية.فاجأ بوتين أمريكا مرة أخري برد فعل مختلف عن توقعها، فلم يوجه ضربة مباشرة إلي تركيا، يمكن أن تغير مسار الأحداث، ولم يتوجه بالشكوي إلي أمريكا وأوروبا، بما يفتح الطريق أمام تفاهمات ومساومات، ومحاولة التوصل إلي اتفاق يكبح الضربات الروسية المكثفة لأتباع تركيا، ويمنح أمريكا بعض الوقت لتجهيز ثعابينها الجديدة، لتحل محل ثعبان داعش الكبير والمثير للمشاكل، واختار بوتين توجيه اللكمات القوية تحت حزام أردوغان. كان بوتين قد فاجأ حضور قمة العشرين في تركيا أن الذين يناقشون سبل ضرب داعش والجماعات الإرهابية بينهم من يدعمون داعش، وأن لديه أدلة دامغة، فصمتوا جميعا، وتجاهلوا الاتهام الخطير. أرسل بوتين بطاريات صواريخ إس 400 الأكثر تطورا في العالم خارج روسيا لأول مرة، ومعها 14 طائرة مقاتلة، لحماية القاذفات الروسية، وكثفت طلعاتها فوق الجماعات وثيقة الصلة بأردوغان، بل وصلت الضربات إلي أطراف أصابعه، حيث ضربت قافلة شاحنات تحمل أسلحة من تركيا إلي سوريا عند معبر باب الهوي، وضرب قافلة أخري عند معبر باب السلام، أي بعد أمتار عن الحدود التركية، لتتبخر أحلام أردوغان في إقامة ما يسميه «منطقة آمنة» أخذ يروج لها منذ دفع بموجات النازحين السوريين إلي أوروبا، ليربك دولها، ويخيرهم بين أن يساعدوا في إنشاء منطقة آمنة للنازحين أو يطلقهم إلي المعابر والبحر، لتغرق أوروبا في مشاكل إيوائهم ودمجهم، ولما امتصت أوروبا الصدمة دون الامتثال للمطلب التركي، جاءت تفجيرات باريس لتثير المخاوف من استقبال اللاجئين، خاصة بعد العثور علي هويات لاجئين مع بعض منفذي تفجيرات باريس. تعمد بوتين إهانة أردوغان عندما رفض استقبال مكالماته، وعندما اعتذر الجيش التركي ضمنا، وادعي أنه لم يكن يعرف أن الطائرة روسية، بعكس التصريحات السابقة، طلب بوتين اعتذارا صريحا من أردوغان، يتضمن دفع تعويضات، ومعاقبة العسكريين المسئولين عن الحادث، أي تمريغ أنفه في التراب، وكشف بوتين عن قائمة عقوبات جديدة، تضم وقف كل أشكال التعاون العسكري، وإلغاء مشروعات انشاء مصنع تجميع طائرات، ومفاعل نووي، وعددا من المشروعات الاقتصادية الأخري، بينما كان السائحون الروس قد ألغوا رحلاتهم إلي المدن التركية. رسخت روسيا أقدامها، وتفرض إيقاعها ورؤيتها، بينما زاد مأزق أمريكا تأزما، وسارعت إلي استخدام تشكيل جماعة سمتها «جبهة سورية الجديدة» أغلبيتها من الأكراد، مع بعض العشائر، لتتمكن من السيطرة علي بعض المناطق التي سيضطر داعش لإخلائها بسرعة، والتي تتصدر قوائم المواقع المرشحة للتدمير، والأكراد مستعدون لمد أيديهم لأي جهة تساعدهم في الاقتراب من حلم الدولة المستقلة، لكن أمريكا وهي تستخدمهم في الاستيلاء علي بعض الأراضي، تعرف أنها ستتركهم يواجهون أزمة مع السكان الأصليين وجيشي سوريا والعراق، وأن تركيا يمكن أن تدفع الثمن الأكبر إذا اشتد عود الجماعات الكردية المقربة من حزب العمال الكردستاني، لكن الوقت ضيق للغاية أمام أمريكا، بما يجعلها لا تلقي بالاً بالمشكلات اللاحقة، فهي تريد قوات علي الأرض موالية لها، يمكن أن تصبح أوراق ضغط عند أي مفاوضات، أوتمنحها الفرصة لتأهيل مجموعات إرهابية بديلة، يمكن أن تواصل العمل لإنجاز الهدف. الجيش السوري وحلفاؤه وصلوا إلي جبل التركمان، وأزاحوا الجماعات الإرهابية من ريف اللاذقية، وأحكموا السيطرة علي معظم طرق الإمدادات، وما تبقي منها تراقبه الطائرات الروسية، وتقصف شاحنات الإمدادات، ما يؤثر علي قدرة الجماعات الإرهابية علي الصمود، ويسهل للجيش السوري تحرير المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعات الإرهابية، ولن يمضي وقت طويل حتي تكون قد حررت مناطق واسعة من ريف حلب وإدلب واللاذقية، في الشمال، وربما تصل إلي الرقة عاصمة داعش، التي تسعي أمريكا من خلال تحالف «سورية الجديدة»، مثلما فعلت مع برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقاسمت روسيا السيطرة علي العاصمة الألمانية.لم يتحمس بوتين لعرض الرئيس الفرنسي هولاند تشكيل تحالف دولي يضم الجميع، لوجود خلافات كبيرة حول غايات كل طرف، والتعريف الخاص لكل منهم للإرهاب، وانعدام الثقة في نواياهم، بينما سيمضي في تحالفه مع طهران ودمشق، وربما انضمت بغداد قريبا بعد التخلص من الضغوط الأمريكية، وخلفهم دعم الصين وباقي دول مجموعة شنجهاي. توقفت مباحثات فيينا عند الورقة الروسية التي تطرح وضع دستور حديث، يكفل الحريات والعلمانية والنظام الديمقراطي، وإجراء انتخابات تحت إشراف الأممالمتحدة، ورفض الاقتراح الأمريكي بضمان عدم ترشح بشار الأسد، لأنه ينافي الديمقراطية، بينما كانت تطمح أمريكا لتكريس الطائفية بدعوي الفيدرالية، وتغيير العقيدة القتالية للجيش السوري، وجاء حادث الطائرة ليوقف المباحثات التي تبدو عبثية. سيفقد داعش دولته في الشام، وبالتالي سيفقد اسمه، لكن أفكاره وعملياته ستبقي، وإن تغير الاسم والهدف القادم، لكن من سيمسك بأراضي دولة داعش الآفلة سيكون له الكلمة الأولي، ويكون قد انتصر في موقعة مهمة، تفتح الطريق لكسب الحرب في سوريا والعراق، المقدر لها أن تكتب بدماء شعوبها بداية مرحلة جديدة من تاريخ المنطقة والعالم. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد