على وقع تفجيرات باريس الإرهابية جاءت كلمة الدكتور أسامة نبيل المشرف العام على مرصد الأزهر للفتاوى التكفيرية رئيس قسم اللغة الفرنسية بجامعة الأزهر فى مؤتمر دولى عقد بمدينة ستراسبورج الفرنسية، بعد أيام قليلة الحادث الإرهابى الذى شهدته العاصمة الفرنسية باريس، لتؤكد براءة الإسلام من الإرهاب. سار مرتديا زيه وعمامته الأزهرية فى شوارع باريس فكان رد الفعل سريعا حين تحلق حوله بعض أبناء الجالية الجزائرية فى أحد الشوارع، مطالبين علماء الدين بالقيام بواجبهم دفاعا عن الإسلام وتصحيحا لصورته لدى الغرب. وبعد عودته إلى القاهرة حكى عن رحلته الأخيرة إلى باريس وواقع المسلمين هناك وسبل مواجهة الهجمة العنصرية وردود الأفعال غير المحسوبة التى يتعرضون لها حاليا من قبل بعض الغربيين المتعصبين. ولكن المفاجأة التى كشف عنها فى حواره مع "الأهرام" هى وجود بعض الأصوات العنصرية والكارهة للإسلام التى تؤجج مشاعر الغربيين ضد الإسلام وتستغل حادث باريس وممارسات "داعش" وجماعات الإرهاب فى نشر الكراهية والعداء ضد كل ما هو إسلامى ليس فى فرنسا وحدها بل فى أنحاء القارة الأوروبية. وأوضح الدكتور أسامة نبيل فى حواره مع "الأهرام" أن وحدة الرصد باللغة الفرنسية فى مرصد الأزهر تابعت تصريحات من متطرفين غربيين، وأن الممارسات التى تم رصدها ضد المسلمين فى فرنسا خطيرة ومؤلمة، وإلى نص الحوار. - ماذا عن مشاركة الأزهر فى المؤتمر الذى عقد بمدينة ستراسبورج بعد مرور 3 أيام على حادث الاعتداء الإرهابى فى باريس؟ شارك وفد من الأزهر فى المؤتمر الدولى الذى عقد فى الفترة من 17 إلى 19 نوفمبر، والذى نظمته جامعة ستراسبورج بالتعاون مع مكتب الشئون الدينية بوزارة الداخلية، بعنوان "تدريس العلوم الإسلامية فى المرحلة الجامعية". وقد كلف الإمام الأكبر وفدا رفيع المستوى للمشاركة فى أعمال هذا المؤتمر لشرح منهج الإسلام الوسطى الذى ينبذ كل أنواع العنف والتطرف باسم الدين، وضم الوفد الدكتور عبدالفتاح العوارى عميد كلية أصول الدين، والدكتور محمد مهنا المشرف العام على الرواق الأزهري. وأعرب المشاركون فى المؤتمر عن تقديرهم وثقتهم فى دور الأزهر فى نشر ثقافة الوسطية والسلام، مؤكدين أهمية التعاون مع الأزهر فى نشر قيم التسامح والتعايش مع الآخر. كما أعلن ممثل جامعة باريس ومدير "معهد الغزالي" أن الأزهر الشريف هو المرجعية الوحيدة للمسلمين السنة، وطالب بتعاون الأزهر مع المؤسسات الدينية فى فرنسا من أجل تصحيح المفاهيم المغلوطة وحماية الشباب الفرنسى المسلم من الوقوع فى براثن التطرف. - كيف ترى وضع المسلمين فى أوروبا بصفة عامة وفى فرنسا على وجه الخصوص بعد تفجيرات باريس؟ زادت تفجيرات باريس من تصاعد "الإسلاموفوبيا" فى أوروبا، مما يشعر المسلمين بالقلق والخوف من عدم الاستقرار أو الاعتداء عليهم، وحدثت اعتداءات على المسلمين. وعلى المستوى الشخصي، قابلت بعض المسلمين ممن يحملون الجنسية الفرنسية، أحدهم جزائرى يحمل الجنسية الفرنسية، وكنت بالزى الأزهرى الذى أعلن هويتى المصرية، وانخرط هذا الرجل فى البكاء وطالبنى بالدعاء له ولأسرته أن يخرجهم الله سالمين من هذه الأزمة، ومن وجهة نظرى حينما أجد رجلا لا أعرفه يبكى بمجرد أن رأى (الزى الأزهري) فإنه يعيش فى قلق وخوف ورعب مثله مثل سائر المسلمين فى فرنسا، وهذا الموقف كان له أثر كبير فى نفسي، وطلب منى هذا الرجل أن نقوم بتوضيح الإسلام للمجتمع الفرنسى الذى أصيب ب"الإسلاموفوبيا". - ما دور الأزهر والمؤسسات الدينية فى حماية المسلمين بالغرب من الاعتداءات المتكررة عليهم؟ بالطبع هناك دور كبير نقوم به، ومن جانب آخر، أعلنت المؤسسات الإسلامية فى فرنسا، وسبقها الأزهر الشريف أن الإسلام براء من كل أعمال العنف الذى ترتكبها الجماعات الإرهابية باسم الدين فى فرنسا. (وهذا فيه نداء للجهات الفرنسية) أن هؤلاء المسلمين أبرياء من أعمال العنف، والأزهر يرسل بعثات دينية إلى المراكز الإسلامية لتعليم صحيح الدين وتوضيح علاقة المسلم بغير المسلم كما أقرها الإسلام وفسرها علماء الإسلام والتى تقوم على السماحة والتعايش السلمي. كما أرسل مجلس حكماء المسلمين برئاسة الدكتور أحمد الطيب - شيخ الأزهر - قوافل سلام لدول العالم للإسهام فى نشر ثقافة السلام وتصحيح المفاهيم المغلوطة ونبذ العنف والتطرف. كما يقوم مرصد الأزهر بإصدار مقالات تحليلية فى مجلة الأزهر وجريدة صوت الأزهر تفضح وتفند الخطاب الداعشى وتصحح المفاهيم الخاطئة التى يبثها التنظيم الإرهابي. - ما هى الممارسات التى تم رصدها ضد المسلمين فى فرنسا؟ قامت وحدة الرصد باللغة الفرنسية بمتابعة تصريحات (ماريون مارشال لوبان) التى أكدت أن فرنسا ليست "أرضا للإسلام"، ومثل هذه التصريحات تؤكد عنصرية بعض السياسيين الفرنسيين ضد المسلمين الفرنسيين وتم التعامل معها، وتمت الاستجابة السريعة من قبل الجهات المسئولة، وفى اليوم الثانى قدمت المتطرفة تفسيرا لما نشرته، وتم نشر بعض المقالات التى تناهض الفكر العنصري، وكان رد فعل السياسيين الفرنسيين معارضا للفكر العنصري، والحزب الجمهورى اتخذ بالفعل موقفا من هذه التصريحات العنصرية. - كيف ترى وضع المسلمين فى أوروبا بصفة عامة خاصة أن الأوروبيين يشكون من عدم قدرة المسلمين على الاندماج فى المجتمعات الغربية. كما يعلن المسلمون عن معاناتهم الرفض الأوروبى لهم. فكيف يندمج من يشعر بالرفض والتهميش؟ قبل أن نتطرق لتفاصيل وأبعاد المشكلة علينا فى البداية شرح معنى لفظ "اندماج" يقصد بهذه الكلمة فى المعاجم اللغوية الدخول والانخراط فى بنية اجتماعية مختلفة. وقد يكون سلبيا إذا قصد به الذوبان وإيجابيا إذا قصد به التجانس فى المجتمع. إذا نحن أمام نوعين من الاندماج احدهما إيجابى والآخر سلبي، ويوضح هذا التعريف المختصر سبب الخلاف فى الرؤى بين المجتمع الغربى والمهاجرين المسلمين، فالنظام الغربى يتبنى فكرا علمانيا يحترم الأديان على الأقل من الناحية النظرية لكنه يرفض المظاهر الدينية، ويطالب المسلم المهاجر بأن يخفى هويته الدينية بين جنبيه، وأن يسلم بمبادئ العلمانية، ويكون نتيجة ذلك - كرد فعل عكسى - المبالغة فى تأكيد الهوية الدينية ورفض الذوبان فى المجتمعات الغربية، مما يؤدى إلى عدم التجانس بين المهاجر المسلم والمجتمع الغربي. ومن هنا تبدأ التحديات الصعبة التى تواجه هذا الأمر. - ما التحديات التى تمنع حدوث مثل هذا التجانس بين الطرفين؟ هى تحديات كثيرة بالفعل وأذكر منها المبالغة فى المظاهر الدينية من جانب المهاجرين، وتصاعد "الإسلاموفوبيا" من جانب بعض التيارات العنصرية فى المجتمع الغربي. وفى الحقيقة، فإن مسلمى المهجر يعانون التمزق النفسى بسبب البحث عن الهوية الثقافية والدينية فى بلد المهجر، حيث تكاد تختفى مساحة الدين والتدين فى أى حوار أسرى أو مجتمعى أو إعلامي، وتختلف فيه أيضا المعايير الأخلاقية بل وتتناقض أحيانا، فما يعتبره المسلم حراما يجده حقا مباحا فى مجتمع المهجر، وما يعتبره مباحا ومستحبا، ترفضه ثقافة بلد المهجر. كما يظهر التناقض جليا بين مبادئ العلمانية التى تدرس فى المدارس والجامعات والتعاليم الدينية التى يتلقاها المهاجر فى المنزل والمسجد، وتختلف درجات عدم الشعور بالرضا من شخص لآخر وفقا لمدى التأقلم والشعور بالأمان، وفى بعض الأحيان تصدر بعض الدول قرارات من شأنها زيادة الشعور بالتهميش وتأكيد ثقافة الاختلاف، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر حظر دخول الطالبات المسلمات المحجبات المدارس الحكومية الفرنسية، ومنع السيدات المحجبات من العمل فى المؤسسات الحكومية الفرنسية، فمثل هذه الإجراءات تبرر مدى التناقض الذى تحدثه العلمانية، فهناك خلل فى التطبيق بين قانون يحترم ممارسة الحقوق الدينية ويؤكد حرية الاعتقاد وبين منع ممارسة بعض التعاليم الدينية. - هل هناك مقاومة من المسلمين ضد هذه القرارات المتعسفة التى تشعرهم بالمرارة؟ لا يعنى هذا أن يقاوم المسلمون فى هذه المجتمعات مثل هذه القرارات التى تصدمهم فى كثير من الأحيان بالعنف لأن الإسلام أمر كل مسلم أن يتحاور بالحسنى وأن يسلك الطرق القانونية للحصول على حقوقه مهما طال الوقت. وننصح كل مسلم أن يكون نموذجا يحتذى به ولا يغالى فى انفعالاته ورد فعله حتى لا يرتكب خطئا ويكون بذلك سببا فى تشويه دينه. ما دور المؤسسات الإسلاميات فى مثل هذه الأمور؟ نحن نطالب من جانبنا المؤسسات الإسلامية العاملة فى الدول الأوروبية بأن يتكاتفوا ويعملوا على تحقيق المعادلة الصعبة، وهي: كيف تحيى إسلامك فى أوروبا؟، كيف تتعايش مع غير المسلم؟، كيف تحترم القانون وتحافظ على ثوابت الدين؟، كما أن عليهم أن يكفوا عن الصراع والانقسام من أجل السيطرة على بعض المساجد أو المراكز الإسلامية، وكما نطالب الغرب من خلال الوسائل الإعلامية برعاية أفضل لمواطنيهم المسلمين، فإنهم يحتاجون إليكم كما تحتاجون إليهم، والعمل على تخفيف حدة العداء الذى يواجهه المسلمون، إذ أن هذه الظاهرة تمثل خطرا على المسلم وغير المسلم، فالمسلمون فى الغرب لا يحتاجون فقط لتعلم صحيح الإسلام حتى لا يسقطوا فى براثن الإرهاب كما هو الواقع فى أوروبا ولكنهم كذلك يحتاجون إلى أن يتعلموا كيف يتعايشون بإسلامهم فى مجتمعاتهم كمواطنين صالحين يؤدون واجبهم تجاه مجتمعهم والأوروبيون قد أخطأوا عندما اعتبروا أن أصل المشكلة دينى بينما المشكلة فى أساسها اجتماعية، والحل هو أن تحاول أوروبا أن تجدد مفهومها للعلمانية بما يتناسب مع المستجدات التى حدثت فى مكونات مجتمعاتها بغية الحفاظ على النسيج الاجتماعى والمبادئ التى قامت عليها هذه المجتمعات من حرية وعدالة ومساواة وأخوة إنسانية.