(1)كانت الإذاعية الكبيرة صفية المهندس هي بطلة( صنايعية مصر) في الأسبوع الماضي, و ذكرت أنها عندما قررت أن تخصص ركنا للمرأة في برامج الإذاعة لأول مرة, لتخاطب المراة المصرية و تنمي وعيها و تأخذها لما هو أبعد من سجن( الأربع حيطان), و فكرت أن أسهل طريقة لإستدراج المراة المصرية للإستماع إليها باهتمام هو( المطبخ), فكان أن استعانت بأستاذة التدبير المنزلي في مدرستها الثانوية, من هنا انطلق اسم( أبلة نظيرة). تلقيت بعدها رسائل كثيرة تلح في ضم( أبلة نظيرة) لقائمة صنايعية مصر, كانت الرسائل تتغزل في دورها الذي أصبح من تراث المطبخ المصري, و كيف أن كتابها الصغير الذي كان مقررا علي بنات الثانوي تمت مصادرته علي يد أمهاتهن اللواتي وجدن فيه مساعدة حقيقة و نجدة تخص كل شئون الطعام من الوصفة والمقادير إلي التكاليف التي تناسب ظروف كل بيت في مصر. كنت قد كتبت من قبل مقالا مختصرا عن( أبلة نظيرة), واليوم بناء علي الرسائل الكثيرة التي تلح في معرفة المزيد عن صاحبة الفضل علي مطابخ جيل أمهاتنا, أعيد نشر هذا المقال بعد التنقيح, اعترافا بفضل هذه( الصنايعية). (2) إمرأة قبطية سمراء تلزمها قواعد دينها بأن تقضي أكثر من نصف السنة صائمة وتحصر علاقتها بالطعام خلال هذة المدة في اختيارات محدودة للغاية لا تعرف المسبك و المحمر و الطواجن إلي آخره, أغلب الظن أن هذا التقشف كان هو مفتاح الإبداع, فتلك المرأة هي التي علمت مصر بعد ذلك بمسلميها و أقباطها ولسنوات طويلة كيف يبدعون في ساحات المطابخ. (3) عندما سافرت أبلة نظيرة نيقولا إلي لندن في بعثة تابعة لمعهد معلمات الفنون لدراسة فنون الطهي و شغل الإبرة, لم تقض سنوات البعثة الثلاث في إتقان أصناف طعام جديدة خاصة ان الفارق بين مطبخنا و المطبخ الغربي شاسع, لكنها تشربت فلسفة ما ساعدتها في تقديم معالجة جديدة لتراث الطهي الذي تتناقله الأمهات جيل بعد جيل, ما يؤكد كلامي هذا أنها عقب عودتها مع بداية الثلاثينيات اختارت أن تعمل في مدرسة السنية الثانوية كمعلمة لمادة أسمتها الثقافة النسوية, كان واضحا أنها تحلم بوضع لمسة من الثقافة و النظام علي فطرة المصريات بالذات الجيل الجديد منهن. فيما بعد أصبحت الثقافة النسوية مادة رئيسية معترف بها اسمها التدبير المنزلي. أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة لتأليف كتاب في الطهي تعتمده الوزارة كمنهج دراسي للفتيات, قبلها كانت نظيرة نيقولا قد صادقت أبلة بهية عثمان العائدة من بعثة مماثلة في انجلترا, فاتفقا علي تأليف الكتاب سويا, فكان كتاب أصول الطهي في أكثر من800 صفحة, وكان أن اهدتا المولفتان الكتاب إلي مليكة مصر صاحبة الجلالة الملكة فريدة, وقالتا في مقدمة الكتاب ان سببين وراء العمل عليه, الأول عدم وجود مراجع عربية في هذا المجال, و الثاني هو اتجاه الرأي العام لتنشئة الفتاة علي فهم الحياة المنزلية فكان لابد من دعم ذلك بالعلم والأصول الصحيحة. (4) لم يتدخل كتاب أبلة نظيرة وأبلة بهية في نفس الطبخ الذي يميز كل أنثي عن الآخري و يعبر عن شخصيتها, اهتم أولا بأرشفة كل الأكلات الممكنة في تاريخ مصر بطريقة بسيطة, ثم اهتم بكل ما هو وراء الطعام. المطبخ الكبير زيادة عن اللزوم تعمه الفوضي سريعا, لابد أن يكون مطبخ البيت في جهة بحرية حتي يكون متجدد الهواء, في كل طعام مطبوخ لابد أن تكون نكهة المادة الأساسية ظاهرة, مهما كانت إمكانياتك لابد أن تكون ألوان الطعام علي المائدة متباينة, متعة العين جزأ من متعة الطعام, أهم شرط من شروط نجاح الصلصة أن يكون لونها مطابق تماما للون المادة الأساسية فيها, مهارة ربة البيت لا تتجلي فقط في الطهي و لكن تتجلي أكثر في مهارات إعادة طهي ما تبقي من بواقي طهي سابق, أدوات المرأة الأساسية إناء و نار, تخلي عن التعقيد في أدوات الطبخ وإن كان ثمة شيء أهم من الإناء و النار في المطبخ فهو ساعة الحائط. (5) لماذا حصدت أبلة نظيرة الشهرة كلها و طغي اسمها علي اسم أبلة بهية عثمان شريكتها في هذا المجد ؟. لا أحد يعلم, لكن لدي تفسير أن أبلة نظيرة رسخت وجودها كصنايعية طهي بنشاط تجاوز الكتاب, ففي أحد الأيام اتصلت بها الإذاعية الكبيرة صفية المهندس صاحبة أشهر برنامج عائلي في تاريخ مصر كلها إلي ربات البيوت و طلبت منها أن تشارك بتقديم فقرة في البرنامج, كانت أبلة نظيرة تقترب من سن المعاش و أعجبتها الفكرة, و ظلت لسنوات طويلة تقدم فقرة يومية صباحية تساعد من خلالها ربة كل بيت مصري علي اختيار طعام غداء أسرتها لهذا اليوم, ثم فتحت لها مجلة حواء أشهر المجلات النسائية وقتها الباب لاستكمال رسالتها المكتوبة و التي تفرع عنها العديد من الكتب التي تحمل اسم ابلة نظيرة منفردا. أكتب عنها اليوم و أفكر في أن كل شاب مصري رزقه الله بأم تجيد الطبخ يعيش مأساة ما بعد زواجه, رغما عنه يظل طول عمرزيجته يقارن بين الطعام كما عرفه في حياته الاولي و بين ما يقابله الآن, ويتناسب حجم المأساة طرديا مع حجم الفارق. فما بالك لو كانت والدة هذا الشاب هي أبلة نظيرة ؟ يقول ابنها في حوار منشور علي الأنترنت أنها ظلت تعمل بدأب حتي سن ال90 ثم رحلت عام92, ويقول إنها برغم كل ما حصدته من تكريم كان لديها غصة من سخرية ممثل كوميدي منها في إحدي المسرحيات واصفا إحدي صفحات كتابها بأنه صفحة الوفيات.