الدلاتون.. منوفية.. هي بالتعبير السياسي المعاصر سيدة القري الأولي لدي شاعرنا الكبير عبدالرحمن الشرقاوي, و ملهمته الأولي أيضا. وهي نموذج للقرية المصرية التي لاتخلع الوشاح الأخضر عن جسدها, ولا ينحسر أفقها.. ولا يكف لها دمع من كثرة معاناة أهلها علي مر العصور وتعاقب الحكومات..وذلك شأن الريف المصري دائما. ........................................................... انعكس ذلك علي إبداعات الشرقاوي المطالب بالحرية والثائر علي طول الخط في كتابته ضد كل من هو ظالم ومغتصب للحقوق و كل ما يتصادم مع الأعراف الخلقية والإنسانية وإذا كان أديب مصر الكبير قد تخرج متعلما في كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول عام1943 فقد تخرج قبلها شاعرا في قريته حيث تفتحت عيناه علي لوحة من الجمال الطبيعي والثورة والحنق والصراع من أجل أن يعيش الفلاحون حياة كريمة. فتتفتح قريحته الشعرية مبكرا, خاصة أنه نشأ في بيت علم وأدب, وكان إخوته الذين يكبرونه يتلقون تعليمهم بالقاهرة, ويعودون إل القرية كل صيف ومعهم كتب يقضون إجازتهم في قراءتها, واستطاع أن يقرأ عناوين هذه الكتب وأسماء مؤلفيها وعرف منها أسماء طه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد شوقي والدكتور محمد حسين هيكل ومصطف المنفلوطي. وكان الشرقاوي متدفقا كالنهر في كتاباته, فهو كما قال عن نفسه يعيش ليكتب لا يكتب ليعيش كغيره من الكتاب, ومن ذلك نستشف أن معظم شعره فقد أو صودر من خلال الحملات التي كانت تقتحم بيته وعقله لتصادر ما استطاعت أن تصادره قبل أن تعتقله عدة مرات وتضعه خلف القضبان لسنوات مع رفاق النضال, ولكنه كان علي عهده مع مبادئه لايتخلي عنها ولو كلفه ذلك أن يدفع حياته ثمنا لما يؤمن به.كما نستشف أنه كتب الشعرفي باكورة حياته متوثبا إلي غد أفضل ينفض عن كاهل مجتمعه غبار العناء وعن بلده قسوة الاحتلال. يحكي الشرقاوي الذي ولد يوم10نوفمبر1920 عن ظروف ضياع معظم إبداعه الشعري الذي نستدل علي أنه كتبه في مقتبل العمر قائلا في مقدمة كتابه( تمثال الحرية وقصائد منسية): ضاع مني شعر كثير, واختنق شعر أكثر.. أما الذي ضاع فقد صادرته الحملات التي عرفتها منذ عام1942, والتي استمرت تنتزع مني كل كتاب فيه فكر, وكل مخطوط كتبته من شعر أو رواية أو قصة قصيرة.. ويقول:إن ما بين دفتي هذا الكتاب وكتاب رسالة من أب مصري و قصائد أخريالفها عام51 ونشرت بعد ثورة يوليو عام1953 مع قصائد أخري هو كل ما بقي من شعر, عسي أن يجد فيها القارئ تصويرا لحياتنا الاجتماعية والوجدانية عبر نحو أربعين عاما مضت.. وعسي أن يتعرف منها الدارس علي الأحوال التي كابدها جيلنا المناضل من أجل الحرية. والشرقاوي الشاعر لم يعش بمعزل عن مجريات الواقع من حوله وإنما تأثر به. وقصائده السياسية تشير إلي أن الهم السياسي كان شاغله الأول طيلة حياته. وإن كان كغيره من الشعراء الذين تربوا في حضن المدرسة الرومانسية يميل إلي الشعور بالاغتراب, فيدفعه ذلك إل البحث عن ملجأ لدي الطبيعة وآخر عند المرأة أو الحبيبة, فيقول الشرقاوي: فإذا مات في غد فدعوه آمن الصمت تحت جنح ضبابه شيعوا نعشه الوضيء بلحن ضاحك المجتلي كلحن شبابه وضعوا فوق قبره من جن الحقل و من زهره.. ومن أعشابه إنه عاش عمره يعشق الحقل ويسلو بالخمر من أعنابه. ورغم ذلك يعد الشرقاوي الذي يتوازي شعره العمودي مع التفعيلي أحد رواد الشعر الواقعي. وقد استمد موضوعات ديوانه من أب مصري من أحداث سياسية ومناسبات اجتماعية. وتعتبر قصيدته من أب مصري إل الرئيس ترومان التي كتبها في باريس عام1951, من أهم قصائده السياسية التي كتبها كرسالة مفتوحة بعث بها إل الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ليجنب العالم ويلات الحرب ويطالبه بالعمل عل إقرار السلام... و بعد17 عاما من كتابته هذه القصيدة كتب قصيدة رسالة أخري إل جونسونرئيس الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت بعد هزيمة67.. بدأها بقوله: أنا لست أقرئك السلام.. فلا سلام ولأنت أقسي لغة كتبت علي قدر السلام وأنهي هذه القصيدة بقوله: أنا لست أقرئك السلام.. فلا سلام ولا سلمت.. وتعد مسرحيات الشرقاوي الشعرية تجربة رائدة لتطويع شعر التفعيلة الذي كان رائدا فيه كأداة للتعبير الدرامي,ويتضح من عناوين مسرحياته مثل مأساة جميلةأنه أراد أن يقدم المأساة الكلاسيكية التي تبرز الصراع بين الفرد و القو التي تريد السيطرة عليه وقهره. وقد اعتمد في مسرحياته عل الشخصيات التاريخية المعروفة, وهو ما يحتاج إل مسرحي متمكن يطوع الحوادث التاريخية بحيث يستطيع من خلالها أن يترجم فكرته. ومن أشهر مسرحياته التي عالج فيها القضايا المعاصرة مأساة جميلة, ثم الفت مهران, عام1966, ثم الحسين ثائرا والحسين شهيدا عام1969 ثم وطني عكا عام1970, ثم النسر الأحمر, وأخيرا عرابي زعيم الفلاحين, عام.1985 ولأن الشرقاوي بدأ طريق التعلم بكتاب القرية وحفظ عدة أجزاء من القرآن الكريم فقد ضمن لغته المسرحية البيان القرآني, مثل استلهامه آيات من سورة التكوير مثلا, في مسرحية, مأساة جميلة: إن أعراض السماء انتهكت... إن هامات الرجال امتهنت والذي يملأ قلب الكبرياء... كلها أضح رغاما في الرغام المعاني كلها قد دمرت... فكاني بجبال سجرت وكاني بجحيم سعرت... والنجوم انكدرت ... والسماء انكشطت..