في العاشر من نوفمبر بدأت وانتهت حياة عبدالرحمن الشرقاوي مابين عامي1920 و1989 عبر رحلة إنسانية حافلة قدم خلالها مشروعه الفكري الخاص القائم علي إعلاء القيم الإنسانية مثل الحرية والعدالة والمقاومة والثورة علي الظلم, لذا التصقت به صفتا الثورة والتمرد اللتان كانتا إحدي تيمات أدبه و كتاباته عامة التي تنوعت ما بين الرواية و الشعر والصحافة, حيث شكلت أعماله جزءا من الضمير والوعي الوطني خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ...................................................... تلقي الشرقاوي تعليمه في مسقط رأسه بقرية الدلاتون بالمنوفية من خلال المدارس الحكومية حتي تخرج في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول عام1943, وبدأ حياته العملية بالمحاماة ولكنه هجرها لأنه أراد أن يصبح كاتبا, فعمل في الصحافة في مجلة الطليعة ثم مجلة الفجر, وعمل بعد ثورة23 يوليو في صحيفة الشعب ثم صحيفة الجمهورية, ثم شغل منصب رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة مؤسسة روزاليوسف,وعمل بعدها في جريدة الأهرام. كما تولي عددا من المناصب الأخري منها سكرتير منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي وأمانة المجلس الأعلي للفنون والآداب, ومنحه الرئيس السادات جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام1974 و وسام الآداب والفنون من الطبقة الأولي. ويلخص الشرقاوي أهم محطات ومراحل تكوينه الفكري والأدبي فيقول:قرأت القرآن وتفاسيره ورأيت فيه استجابة لأشواق الإنسان إلي العدل ولعنة شديدة علي الظلم.. وأول ما أحببته من القراءة شعر الشعراء الصعاليك العرب, وعندما درست اللغات الأجنبية أحببت الشعراء الصعاليك الأجانب, لأن أدب الصعاليك يمثل صرخة احتجاج علي الظلم وتمردا علي الأوضاع الجائرة. كما استهواني الفكر الإنساني الذي يتحدث عن قضايا حق الإنسان في ممارسة العدل وأن يحيا سعادته وأن يحقق بعمله كل أحلامه وأن يمنحه المجتمع الحب والفضائل. وفي الفكر العربي استهواني الثوار من أيام صدر الإسلام, أولئك الذين كان لديهم الطموح في أن يحولوا الدنيا إلي جنة للحب والإخاء وأن يجعلوا شرف الإنسان أقوي من كل شيء وأن يرتفعوا فوق الطمع والخوف. لذا لم يكن من المستغرب أن تأتي كتابات الشرقاوي بمختلف أنواعها تعبيرا عن قضايا الناس وتمردا علي الواقع الاجتماعي والسياسي الذي قد يغلب عليه الظلم في كثير من الأحيان. فقد كان يؤمن بأن الإصلاح يأتي من خلال تغيير الأنظمة الفاسدة بالكامل, وتلاقي ذلك مع انتمائه إلي اليسار وتأثره بالاشتراكية, برغم تأكيده أكثر من مرة خلال أحاديث وتصريحات صحفية عدم انتمائه للشيوعية أو أي تنظيم يساري سري, وبسبب تمرده هذا خاض الشرقاوي معارك عدة مع السلطة سواء في عهد جمال عبدالناصر أو أنور السادات ترتب عليها منعه من الكتابة أكثر من مرة. حيث هاجم الشرقاوي نظام عبدالناصر بعد انفصال سوريا عن مصر,فمنح أجازة مفتوحة فصل علي أثرها من جريدة الجمهورية مع آخرين حيث كان يعمل, وخلال ذلك الوقت كتب مسرحيته الفتي مهران, وهي مسرحية تتحدث بالرمز عن الحقبة الناصرية, وتحاكم أخطاء النظام آنذاك. يقول الشرقاوي في روز اليوسف عام1967: التعبير عنديكانبالرمز, وعند غيري أصبح نوعا من الألغاز, وهذا لمحاولة الهروب من الرقابة التي كانت تفرضها الدولة علي شتي أنواع الكتابة, ومع هذاكانالقارئ يفهم الهدف الذي يقصده الكاتب, لأن القارئ نفسه كان يعاني من أزمة حرية التعبير. واصطدم الشرقاوي بنظام السادات عندما كان يعمل في روزاليوسف, فبعد مظاهرات18 و19 يناير اتخذت روزاليوسف موقفا سياسيا واجتماعيا واضحا من هذه المظاهرات وأطلقت عليها انتفاضة شعبية بينما كان الرئيس السادات مصرا أن يطلق عليها انتفاضة الحرامية, الأمر الذي أغضب السادات فقرر إعفاء عبدالرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ وفتحي غانم من مسئولياتهم بالمجلة. قول الناقد رجاء النقاش في حدث عنه: الشرقاوي كان صاحب فكر ساري, دعو إلي التغر وؤمن به. كما كان في الوقت نفسه من أصحاب الأسلوب الواقعي في معالجة المشكلات الدققة, ولذلك قرر أن خوض محاولة, أو مغامرة كبري للتوفق بن الفكر الساري والسلطة, لهذا كان الشرقاوي من أعلام المدرسة الأولي في تارخنا الثقافي والفكري, وهي المدرسة التي تعمل وتحرص علي التفاهم مع السلطة وخلق الجذور معها, حتي لا تعرض فكره للقمع المستمر الذي ؤدي به في النهاة إلي عدم القدرة علي الإنتاج والإنجاز, علي أنه لم ستطع أن نجو بنفسه من كل العواصف, رغم جهوده الكبرة التي بذلها للتوفق بن الفكر الساري والسلطة. وبرغم ذلك لم يسلم الشرقاوي من ملاحقة وهجوم رفاقه المنتمين لليسار, الذين هاجموه أحيانا بتهمة التزمت في مواقفه تجاه نظامالرئيس جمال عبد الناصر, وأحيانا آخري بتهمة مهادنة السلطة في عهدالرئيس السادات. إلا أنه حين أصدر كتابهباندونج والسلام العالميالذي كرسه للحديث عن ظهور حركةعدم الانحياز ودور عبد الناصر فيها, فإنه كان يرد, ربما بقصد, علي الذين كانوا يتهمونه بالتزمت. فضلا عن كون سجن شقيقهوتعذيبه مع آخرين من مثقفي اليسار قد شكل مصدر قلق وخوف لدي الشرقاوي شاركه فيه مثقفومصر من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين في ذلك الوقت. كان الشرقاوي طوال الوقت يقف علي يسار السلطة مدافعا عن المهمشين والمظلومين. وتعد روايته الشهيرة الأرض, التي صدرت عام1954 وتحولت لفيلم سينمائي حمل نفس الإسم, أول عمل روائي واقعي للريف المصري ومعاناة الفلاحين, وكذلك رواية' الفلاح' عام1967 والتي برز فيهما تأثره الشديد بعالم القرية وهمومها وبشخصية الفلاح التي كانت أحد أهم مصادر إلهامه, و أيضا رواية قلوب خالية ثمالشوارع الخلفية التي عكست رؤيته للمدينة و حياتها. كما خاض معارك أخري مع رجال الدين الذين كالوا له الاتهامات بأنه يسخر الإسلام لصالح الماركسية ويرتكب تجاوزات وأخطاء في تفسير بعض الآيات القرآنية, وانتقدوا ما وصفوه بعدم توقيره للشخصيات والأحداث الإسلامية, ومن أبرز تلك المعارك كان الخلاف بين الشرقاوي والشيخ محمد الغزالي والذي توسط لإنهائه الشيخ حسن الباقوري عبر ترتيبه للقاء بينهما شهد توقيعا علي بيان تصالح. وبعد أن اكتشف الشرقاوي أن الفكر الإسلامي يؤكد فكرة العدالة ويجعل منها( فريضة), انطلق إلي آفاق جديدة من الفكر والإبداع جسدته دراساته الإسلامية المتميزة التي سعي من خلالها إلي إحياء كل ما هو إنساني في تراثنا الإسلامي بهدف إبراز الميراث الحضاري المشترك لكل الناس مهما اختلفت دياناتهم و فلسفاتهم وآراؤهم, الأمر الذي برز بشدة في كتبه محمد رسول الحرية,أئمة الفقه التسعة, وكذلك سلسلة كتبه التي تناولت الخلفاء الراشدين. وخلال ذلك اصطدم صاحب الفتي مهران بمشاكل محاولة التوفق بن الفكر الساري والتراث العربي والإسلامي, وقد جاءته هذه الفكرة مبكرا, ولكن محاولته تلك جرت عليه الكثر من المعارك العنفة, وكان من مظاهر هذه المعارك أن مسرحيتيه الحسن ثائرا والحسين شهيدا مازالتا تلقيان اعتراض المحافظن بسبب رفضهم لمنهج الشرقاوي في تصور التارخ الإسلامي والتعبر عنه. كان عبد الرحمن الشرقاوي معنيا دائما بشرف الكلمة وتحررها, ونحن نتذكره اليوم كما قال في مسرحيته( الحسين ثائرا) علي لسان الإمام الحسين: فاذكروني بالنضال علي الطريق لكي يسود العدل فيما بينكم.. ولتنهضوا باسم الحياة كي ترفعوا علم الحقيقة والعدالة.. رحم الله الشرقاوي إنسانا ومفكرا أجل الكلمة وحمل مسئوليتها لتضيء كلماته حياتنا.