لالا..يا..لالا.. يا..للا.. لو.. أدركوني يا هووووه.. العقل مني سيحوووه.. والضمير مسحوووه.. والمنطق مسخووووه.. وقلبي البريء الطاهر سحلووووه... وهكذا صحونا ذات صباح, عندما شقشق الفجر ولاح, فسمعنا صديقنا الحمار, المثقف الجبار, يتغني بالأشعار, ويدندن تحت الأشجار. فلما أن انتصف النهار, وانقشع الغبار, سألناه في حذر, بماذا تتغني يا قمر؟ فقال ضاحكا في استهزاء, غير آسف ولا مستاء: ذلكم يا أحباب, النشيد الجديد للغاب, ومن الآن وطالع, سوف تنشدونه في المجامع, والكنائس والجوامع, وأيضا في حفلات زفافكم, الأقوياء منكم قبل ضعافكم.. والفقراء كما الأغنياء. فهيا هيا قولوا معي.. كلكم دون استثناء: ماء.. ماء.. ماء! فلما أن تعجبنا غاية العجب, وكاد يتملكنا الغضب, سألناه لاهثين: فمن ذا أمرك بتأليفه يا حزين؟ هيا اعترف يا لعين, وإلا فليلة أبيك طين! أجاب بعد تفكير, وبعد أن حرك ذيله الكبير: اعلموا يا أحبابي, ويا خيرة أصحابي, أن شيطاني الملعون, الذي هو بحب الهلث مسكون, وبالشعر مفتون, زارني قبل أسبوع, وعرض علي الموضوع, وقال لي إنه من غير اللائق, ألا يكون لغابتكم نشيد رائق, تباهون به الأمم, وتغنونه ساعة رفع العلم; ويجمعكم ساعة النزال, إذا كتب عليكم القتال. وأضاف الحمار, بمنتهي الافتخار: أنا علي الفور استملحت الفكرة, وتعهدت بتأليفه اليوم قبل بكرة, وها أنتم أولاء قد سمعتموه, فهيا يا حلوين عن ظهر قلب احفظوه, وخلال يوم أو يومين جميعا رددوه. فكنا كل ظهيرة, نتحلق حوله في الحظيرة, وننصت للحمار, يراجع معنا نشيده المختار. ومع ذلك فقد كان, في كل الأذهان, سؤال لئيم كالثعبان: لماذا يا تري هذا الموضوع الآن؟ لقد عشنا عمرنا المديد, نردد الأناشيد, التي حفظناها منذ الرضاع, وكم أمتعتنا غاية الإمتاع. فما السر ياتري وراء هذا التغيير, ولماذا هذا التحول الكبير؟ فلما أن أحس الحمار بلهفتنا, وقرأ في العيون مدي حيرتنا, جمعنا في الأصيل, تحت النخيل, وألقي علينا خطابه الطويل, فقال يا أبنائي الأعزاء, هناك شيء اسمه الانتماء, ولو أنكم نظرتم حولكم, في الغابات المحيطة بكم, فسوف تجدون الجميع, وكل قطيع, يعشقون أوطانهم غاية العشق, ويفدونها حتي آخر رمق, ويبذلون من أجلها النفيس والغالي, والأراضي والمال, بل وحتي نسوانهم والعيال. فهيا هيا اهتفوا بانفعال: بالروح والدم نفديك يا غابة الجمال, يا وطنا لكل الأجيال. وهكذا هتفنا.. وصرنا كل يوم نهتف, بلا تعب أو ملل أو تأفف. وكنا إذا عضنا الجوع, وتساقطت من الأعين الدموع, أو إذا رأينا أبناءنا في الأسواق يباعون, وعلي الحدود بالشلوت يضربون, وتحت الكباري ينامون, وفي إشارات المرور يشحذون, أو إذا شممنا روائح الفساد, تتفشي في البلاد. ... أو قرأنا في الصحف والأسفار, وفي مواقع الأنباء والأخبار, عن تدهور غابتنا ليل نهار, أو إذا غرقت الحقول, بعدسها وقمحها والفول, أو إذا غمرتنا الأمطار والسيول, فأغرقت بيوتنا والمحصول, أو إذا عيرنا الناس, بمستوي تعليمنا المحتاس.. كنا آنئذ نردد نشيدنا العتيد, ذا المغزي المجيد, فتنزاح كل الهموم, وتتبدد الغيوم, وتزول آلامنا والمحن, وننسي الشجن.. ونظل نرقص حتي الفجر, دون تعب أو حسرة أو ضجر. إلي أن أتي علينا نهار, دونما توقع منا أو انتظار, فرأينا شقيقنا الحمار, عيناه سوداوان كالهباب, ويلطم خديه بالقبقاب, وقد سال علي شدقيه اللعاب, وعفر وجهه بالتراب, وتاه منه العقل وغاب. .. فلما أن سألناه بحسن نية, عن سبب تلك البكائية, والمحزنة الكونية, والدوشة اللي من غير لازمة, صرخ فينا ابن الجزمة: تعالوا يا ساكني البرية, شوفوا خيبة أبيكم القوية. لقد هجم علينا التتار ساعة السحر, وأنتم مشغولين بالرقص والطبل والنقر, ودوخكم السهر, فهزموكم في ست ساعات, ولقنوكم درسا لن تنسوه حتي الممات.. وذبحوا البشر, وسبوا نساءكم ذوات الخفر, وسلبوا الخيام والمحاصيل والبقر, ولم يتركوا عندكم أي بئر, إلا وسمموه يا غجر. بكينا ما شاء لنا البكاء, وجادت العيون بكل ما فيها من ماء, وأدركنا بعد مضي الزمان, وفوات الأوان, أن الأناشيد والغناء, لن تعيد الزمن إلي الوراء, ولن ترجع ما ضاع, ولن توقف الأوجاع, ولن تصلح الأوضاع, وأن الطبل والزمر, والرقص تحت ضوء القمر, إن هي إلا علامات علي الخيبة الثقيلة, وانعدام الحيلة. .. فلما أن سألنا الحمار العتيد, ذا العقل الرشيد, عن كيفية الخروج من الورطة, نهق نهقته الشهيرة, ونط له كام نطة, وزرط الزرطة, ثم ابتسم في مرارة, وقال: يا ألف خسارة, ليس أمامنا يا أبناء العبيد, إلا تأليف نشيد جديد, نردده معا في كل مناسبة وعيد, فنحن بالأناشيد نحيا ونموت, يالا يالا.. سيبوني أفوت!.