كان التحدى الحقيقى الذى واجهه الصديقان، هو الرهان على أفق علاقاتهما؛ إذ كانا قد نشآ معًا تمامًا كأخوين فى مدينة نيويورك، وحان موعد افتراقهما وفقًا لقرار (بوب) الذى يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، بالرحيل عن نيويورك إلى غرب الولاياتالمتحدة؛ بحثًا عن الثروة، أما (جيمي) البالغ من العمر عشرين عامًا، فقد قرر البقاء فى نيويورك جائلاً صائلاً فيها، بوصفها المدينة الوحيدة التى يسكنها وتسكنه حبًا وانتماءً؛ لذا اتفقا على أن يلتقيا فى المطعم الذى يتناولان فيه عشاءهما تلك الليلة، وفى الساعة نفسها، وذلك بعد مرور عشرين عامًا، حيث يكون كل منهما قد عرف مصيره فى الحياة. ترى ألا يعرف المرء مصيره فى الحياة إلا بعد مرور زمن التحقق؟ صحيح أن ( بوب) يبرر استطالة سنوات الفراق بدافع معرفة كل منهما لمصيره فى الحياة، لكن الصحيح كذلك أن مستقبل المرء يوجد فى بنية حاضره، بوصف المستقبل يشكل همًا وتوقعًا، أو أملاً، أو قلقًا يستقطب اقتدار الإنسان نحو مصير معين، سعيًا إلى تحقيقه؛ بل يطرح أيضًا تحديدًا مسبقًا لوسائل تحقيقه. ترى هل قرار (بوب) بالرحيل عن صديقه ونيويورك المقرون بقطيعة السنوات العشرين، يستدعى التنقيب عن لغزه لمعرفة الممارسات التى امتلأت بها مسافات تلك السنين؟ وعلى الجانب الآخر ماذا يعنى تهميش العلاقات الإنسانية الحميمة عن التواصل الإيجابى الفعال جغرافيًا وزمنيًا؟ هل يعنى ذلك نوعًا من علاقات الانزواء، تحاشيًا لأية علاقات حميمة اكتفاءً بعلاقات عابرة عارضة، تحقق المصالح والمنافع، مع بشر منزوين يفتقرون إلى العلاقات الحميمة، ويشبهونهم فى ممارسة علاقات هامشية تحقيقًا لذات الأغراض؟ هل يمكن أن يصبح هذا الانزواء مصيرًا اجتماعيًا عامًا؟ انقضت السنوات العشرون للقطيعة الإرادية للعلاقة الحميمة بين الصديقين، التى خلالها مارس كل منهما منفردًا سلوكًا ما تجاه أحداثها العادية والمقبولة، والاستثنائية والمجهولة، والمنتظرة والسائدة، والمرفوضة والممنوعة. صحيح أن هناك مسافة معنوية بين الشخص والشخصية، فشخص (بوب) هو ما يعرفه (بوب) وحده عن نفسه، وشخص (جيمي) هو ما يعرفه (جيمي) وحده عن نفسه؛ أما الشخصية فهى ذلك الوجه المروج المتداول لكل منهما الذى يراه الآخرون، والصحيح كذلك أن الصديقين منفردين قد اندرجا فى سياق امتداد زمني، نجمت عنه متغيرات مخفية قد تكون مسكونة بخروقات، تخالف ما كان يعرفه كل منهما عن نفسه، وتهدد استمرار علاقة الجدارة المتبادلة بينهما. ترى هل عند اكتشاف تلك المتغيرات فى لقائهما بعد القطيعة الطويلة، يمكن أن يؤدى ذلك الكشف إلى افتقاد التواصل الحميمى بينهما؟ صحيح أن ثمة حقيقة ثابتة مفادها أن الزمن لا يرتد إلى الوراء، لكن الصحيح أيضًا أن لقاء الصديقين الليلة قد يعنى فى مرآة الممكن أنه ارتداد إلى ما قبل عشرين عاماً مضت، بوصفه ارتدادًا إلى ماض محفور يستعاد بالزمن النفسى الذى تصوغه المشاعر. ترى هل بعد اللقاء وغياب ذلك الصمت الممتد لسنوات، وبعد صخب الكلام سيأتى البوح؟ فى ليلة اللقاء تبدى الشارع الذى كان يقع فيه مبنى المطعم، كأنه مهجور إلا من ضابط الشرطة الذى يسير رشيقًا مثيرًا للإعجاب، حيث يتشخص حضورًا منضبطًا وهو ينخرط فى أداء عمله بطريقة معيارية، فعيناه تدوران وكأنما تبحثان عن شيء غريب فى الشارع الهادئ، ثم فجأة أبطأ فى مشيته أمام مدخل إحدى البنايات، إذ لاح (بوب) بالقرب من محل لبيع المستلزمات المنزلية، يقف ساكنًا، ويضع فى فمه سيجارًا غير مشتعل، عندما خطا ضابط الشرطة نحوه انطلق الرجل مسرعًا يحادثه، وكأن ضابط الشرطة قد اكتشف عريه، فاندفع يكسو عريه ويحجبه، معلنًا أنه ينتظر صديقه على موعد بينهما منذ عشرين عامًا، فى مطعم أصبح مكانه ذلك المحل، أخبره ضابط الشرطة أن المطعم هدم منذ خمس سنوات، عندئذ أدرك (بوب) قلقًا أن الموقف أصبح محمولاً على عدم الاستيعاب، فأخرج عود ثقاب وأشعل السيجار، فأظهر الضوء وجهًا مربعًا شاحبًا، بعينين ماكرتين كعينى الثعلب، وندبة عند حاجبه الأيمن، وعلى قميصه دبوس ماسي، ثم راح يحكى للضابط تفاصيل قصة اللقاء. تبدت قناعة الضابط بالمدلولات المباشرة لقصته، لكنه أبدى دهشته من طول الزمن بين اللقاءين. ترى هل دهشة الضابط من علاقة، لا تعرف انفتاحًا يمنحها حتى مجرد معرفة جزئية، تخترق القطيعة وفقًا لأساليب الاتصال التى تتجاوز حدود الرؤية المباشرة؟ لقد غادر الضابط (بوب) متمنيًا له أن يلتقى صديقه. راح الناس يتقافزون إلى بيوتهم هربًا من إكراهات تغيرات الطقس، كسقوط حبات المطر، وصفير الرياح، فى حين ظل (بوب) واقفًا ثابتًا فى مكانه منتظرًا صديقه الذى قد لا يأتي. صحيح أن ثمة تصورات أنتجها عقله للحظة اللقاء، لكن الصحيح كذلك أن يقين تصوره لحضور صديقه، هو اشتغال تطلعه المسيطر، استردادًا لسنوات ما قبل حاضره. ترى هل يمكن لتلك التصورات أن تظل مسيطرة، فتجعل كلاً منهما عند اللقاء، لا يرى فى الآخر تغييرات السنين، بل يتراءى له وجه صديقه الذى كان عليه عند فراقهما منذ عشرين عامًا؟ وهل ترحل تلك التصورات بوصفها تصورات عابرة؟ فجأة اقترب من (بوب) رجل راح يستوثق بالسؤال عن اسمه، على الفور تعارف (بوب) و(جيمي)، وتدفقت بينهما الألفاظ المتداولة، وأسئلة عن عالم التداول الحياتى لكل منهما، ثم انطلقا فى السير يتحدثان، فتبدى (بوب) مشحونًا بالغرور والسيطرة، أما الآخر فمغمور فى معطفه يصغى إليه، وعندما مرا بجانب صيدلية تسطع منها أنوارها، فأتاحت للرجلين أن يرى كل منهما الآخر بوضوح، لحظتها توقف (بوب) عن الكلام، معلنًا اتهامه للرجل المرافق له، بأنه ليس (جيمي) صديقه الذى يعرفه بأنفه المستقيم؛ فإذ به يتبدى اليوم بأنف مضاد أفطس، وذلك ما لا تقوى عشرون عامًا على تغييره، فإذ بخطاب الرجل المرافق له يخبره، بأن عشرين عامًا قد تغير الرجل من طيب إلى شرير. استكمل الرجل حديثه بإعلام (بوب) أنه رهن الاعتقال بوصفه مطلوبًا للتحقيق فى شيكاغو، ثم سلمه رسالة قد كلف بإعطائها إليه. أمسك (بوب) الرسالة، فإذ بها من صديقه (جيمي) الذى أصبح ضابط شرطة، حيث جاء فيها: ( بوب، لقد وصلت إلى مكان الموعد المحدد تمامًا، ولكن حينما توهج عود الثقاب لتشعل به سيجارك، رأيت وجه الرجل المطلوب فى شيكاغو، لكنى لم أستطع إلقاء القبض عليك بنفسي، فتركتك واستعنت بآخر فى ملابس مدنية ليقوم بالمهمة. جيمي). ترى أليس ذلك بوحًا صادمًا بالنسبة إلى (بوب)، لكنه ردًا عقلانيًا مشحونًا بالمسئولية. يؤكد الكاتب الأمريكى وليم سيدنى بورتر (1862- 1910 )، فى قصته (بعد عشرين عامًا)، أن مفهوم الرفقة لا يعنى الذاتية المغلقة على حدودها، التى تستهدف تطويع من حولها وفقًا لعاطفة أو هوى؛ بل هى تخضع لاستدراكات الصواب الأخلاقي، ولكل آليات الضبط الاجتماعى التى توسع دائرة المجتمع العادل وتعززه. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى