تصاعدت ارتدادات انخراط المقاتلين الأجانب فى صفوف الجماعات والتنظيمات المتطرفة على مسرح العمليات فى دول الإقليم خلال الفترة الأخيرة على نحو ينذر بتحولات دراماتيكية فى مسار الفعل الإرهابى ورد الفعل الإقليمى والانخراط الدولى فى ميادين المواجهة المتعددة لهذه التنظيمات وامتداداتها الدولية، إذ تنوعت العمليات الإرهابية التى شنها تنظيم داعش مؤخرا لتشمل ميادين إقليمية كلبنان وأنقرة وعواصم دولية كباريس وبروكسل. وبدت عالمية التحالف الدولى تواجه عولمة الهجمات الإرهابية التى استخدمت تكتيكات مستجدة وعناصر من جنسيات مختلفة، وتباينت ميادين التخطيط والتنفيذ والانطلاق، بما إوجد تحديات مركبة أنهت فكرة القدرة على «التعايش» مع التهديد «الداعشي» ودفعت بحتمية المواجهة، وهو ما يعنى تزايد احتمالات تصاعد المخاطر وليس احتواءها، كما جرى سابقا. ذلك أن تحديات «الإرهاب السائب» الذى يمكن أن يصل مداه عقر دار بعض القوى التى تستهدف منظماته وعناصره على مسرح عمليات الشرق الأوسط سيواجه بتحالفات «سائبة» أو «مرنة»، ومن شأنه أن يضيق الخناق على داعميه فى الوقت الذى يلقى على كاهل محاربيه تحديات تتعلق بتداعيات المجابهة على أمن وسلامة أراضيهم فى ظل مواجهة باتت أشبه بممارسة «ضربات الجزاء» فكل طرف يريد إحراز هدف انتقامى فى «مرمى» الجانب الآخر. مسارات الصراعات فى هذه المواجهة سيحظى اللاعبون الأجانب أو «المحترفون» بأفضلية. ذلك أنهم من ناحية يثيرون هواجس القوى الدولية لاعتبارات تتعلق بالقدرة على النفاذ الداخلى لشن هجمات مفاجئة، ومن ناحية أخرى، لما يفرضه ذلك من ضرورات اتخاذ إجراءات سياسية وأمنية وعسكرية تؤثر على نحو مباشر على مصالح مختلف القوى الإقليمية. لذلك فإن هجمات الثالث عشر من نوفمبر الماضى بباريس وما سبقها من عمليات نفذتها مجموعات غالبيتها تمثل عناصر جهادية غربية، من شأنها التأثير على طبيعة الصراعات الداخلية فى دول الإقليم ومساراتها، وذلك على النحو التالي: أولا- تهيئة البيئة الداخلية للقوى الداعمة للجماعات الإرهابية: ينخرط المقاتلين الأجانب فى عدد كبير من التنظيمات الجهادية فى العراقوسوريا، خصوصا تنظيمات «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«أنصار الشريعة» و«شورى المجاهدين»، وتمثل بوابة العبور الأساسية لذلك تركيا، فيما تلقى هذه العناصر الدعم التسليحى والمالى من قوى إقليمية أخرى معروفة، وهو ما قد يستدعى تصعيدا لتغيير نمط هذه المواقف لتنسجم مع طبيعة ما أفرزته هذه السياسات من تحديات، فالدول الغربية التى تساهلت مع انخراط مواطنيها فى الجماعات المتطرفة سابقا، لن تستطيع إتباع ذات التكتيك حاليا مادامت فوهة «بندقية الجهاد» قد وجهت شمالا حيث تقبع ويأمن مواطنوها. وقد بدت بعض من ملاح التغيير فيما أشارت إليه تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، من أن 75٪ من الحدود التركية – السورية قد أغلقت (حدود تركيا مع مناطق تمركز الأكراد) وأن العمل يجرى لإغلاق بقية الحدود (حدود تركيا مع مناطق تمركز داعش). هذا بينما صرح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن تنظيم داعش يتم تمويله من قبل 40 دولة، منها دول فى مجموعة العشرين (G20). يشير ذلك إلى الرغبة فى ممارسة ضغوط على بعض القوى الإقليمية، فالتساهل مع عودة المواطنين إلى دولهم الغربية من سوريا بعد غض الطرف عن مرورهم إليها، يعنى أن هذه الدول قد تواجه تحديا مزدوجا، يتمثل فى العمليات الإرهابية التى ترتبط بتنظيمات تتمركز فى الشرق الأوسط، هذا إلى جانب اتساع نطاق ظاهرة «الهجمات العشوائية» التى تتأتى ممن يطلق عليهم «الذئاب المنفردة» Lonely Wolf أو «الأسراب الهائمة» Swarming Birds. التنسيق الاضطراري ثانيا- تزايد التحالفات الدولية ضد «الإرهاب»: تشير تطورات ما بعد أحداث باريس إلى أن ثمة تقاربا نسبيا بين قطبين متباينى الرؤى بشأن مسار الصراع فى سوريا، وهما فرنساوروسيا، ذلك أن أحداث الهجمات الإرهابية المتزامنة التى شهدها عدد من ضواحى باريس بالإضافة إلى التوظيف الروسى لحادث سقوط طائرة الركاب الروسية فى سيناء، قد دفعت بتنسيق اضطرارى للعمليات المشتركة فى الأرضى السورية، خصوصا بعد التوجه الثنائى لإتباع سياسة انتقامية حيال تمركزات عناصر تنظيم داعش، وهو تطور حاولت روسيا توسعة نطاقه من خلال توجيه مطالب صريحة للجانب البريطانى لتنسيق عملياته العسكرية فى الإقليم مع روسيا. يفيد ذلك ان الهدف الرئيسى «المعلن» يتمحور حول استهداف الجماعات الإرهابية المسلحة، ويجسد المخاوف من تصاعد أدوار مقاتلين يحملون جنسية هذه الدول ليس على الساحة السورية، وإنما مستقبلا على ساحات دولهم الأصلية. وبينما يستند التوجه الروسى على مقتضيات مؤتمر «فيينا 2»، وما تمخض عنه من خريطة تشمل إجراءات وبنود للتعاطى مع المرحلة الانتقالية سياسيا، فإن تصعيد الإجراءات الأمنية وتدابيرها بالتوازى مع ذلك تشير إلى أن الإقليم والعديد من دول العالم المنخرطة فى صراعاته، قد تشهد موجات أخرى من الارتدادات الإرهابية، وذلك فى إطار المباراة بين قوى تريد تأكيد امتلاك القدرة على «العقاب»، وجماعات إرهابية ستستهدف رسائلها بالمقابل تأكيد القدرة على الانتقام، عبر توظيف عناصرها الغربية، والتى تشكل ما يمكن أن يطلق «قوات النخبة» أو عناصر «العمليات الخاصة». ثالثا- تصاعد هجمات التنظيمات المتطرفة فى الإقليم: قامت مقاربة العديد من القوى الإقليمية والدولية على فكرة أساسية مفادها أن مواجهة داعش فى الميدان البعيد (سورياوالعراق) يعطى أفضلية أكبر لتحقيق الأمن ودرأ مخاطر التعرض لهجوم مباشر داخل أراضى هذه الدول، غير أن قدرة بعض العناصر الغربية على القيام بعمليات نوعية من حيث نمط الأهداف وعدد الضحايا وبحكم الأثر الرمزى والتداعيات المادية، قد يفضى إلى تشديد الإجراءات والتدابير الأمنية، بما قد يؤدى عطفا على ذلك إلى تزايد احتمالات استهداف مصالح هذه الدول فى المنطقة، ليتحقق لهذه الجماعات عدد من الأهداف فى ذات الوقت، فمن جهة تأكيد مرونة التحرك، ومن جهة ثانية، إثبات القدرة على النفاذ واختراق منظومات الأمن لدول المنطقة، ومن ناحية ثالثة، النيل من هيبة ومصالح القوى الغربية المنخرطة فى عمليات قتالية فى المنطقة سواء داخلها أو فى ساحات مجاورة، ولعل ذلك ما أوضحته تفجيرات مالى الأخيرة التى أدت إلى مقتل عدد من رعايا الدول الغربية. مضاعفة التجنيد وستتعلق الإشكالية الرئيسية فى هذا السياق بجدلية العلاقة بين اتساع نطاق المواجهات مع التنظيمات الإرهابية، وقدرة الأخيرة على مضاعفة عمليات التجنيد التى تقوم بها، فقد أشارت تقديرات أمريكية إلى أن المقاتلين الأجانب ازدادوا ما بين 12 إلى 15 ألفا منذ 3 سبتمبر 2014، حيث بداية عمليات التحالف الدولى فى سورياوالعراق، وحسب التقدير، فإن نحو 15 إلى 25 ٪ من هؤلاء يحملون جنسيات دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. رابعا- ميادين المواجهة المحتملة: تتعدد الجماعات الإرهابية التى تتمركز فى دول الإقليم، ويبدو أن تنظيم داعش أكثر هذه التنظيمات حضورا فى الوقت الراهن، خصوصا أن هناك نحو 36 «ولاية» قد أعلنت مبايعتها له، وفى ظل توجه العديد من القوى الدولية لتركيز عملياتها العسكرية ضد التنظيم فى كل من سورياوالعراق، فإن ذلك قد يفضى إلى «نزوح جهادي» تدريجى إلى ساحات صراع أخرى (انتقال ميداني)، بما سيلقى بأعباء أمنية وعسكرية على بعض الدول التى قد تنتقل هذه العناصر إليها. وعلى جانب آخر فإن ارتفاع عدد المقاتلين الأجانب المنخرطين فى الصراعات الإقليمية فى المنطقة، يعنى أن تصعيد الضغوط العسكرية على هذه التنظيمات من شأنه أن يفضى إلى تزايد احتمالات نفاذ وتسرب عدد كبير من هؤلاء إلى دولهم، للقيام بعمليات إرهابية على غرار الأحداث التى شهدتها فرنسا مؤخرا. أشارت تقديرات أمنية لبعض دول المنطقة إلى أن تكثيف العمليات العسكرية ضد هذه التنظيمات الجهادية، قد يزيد من احتمالية أن تشهد أغلب دول الإقليم موجات من العنف والإرهاب أشبه بتلك التى شهدتها من قبل بسبب أزمة العائدين من أفغانستان، غير أن الموجات الإرهابية المحتملة قد تكون أكثر شدة وتنوعا من حيث أهدافها، يتأسس ذلك على أن ما يشهده الإقليم من صراعات شكلت بؤر جذب لأكبر حشد من الجهاديين الأجانب فى تاريخ الحركات الجهادية الحديثة. وقد أشارت صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية إلى أن الصراع فى سوريا استقطب مواطنين فرنسيين أكثر مما استقطبته حربا أفغانستان والبوسنة، وهو أمر ينسحب على العديد من الدول الأخرى كبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وايرلندا وهولندا. وقد يضاعف من هذه الإشكالية المعطيات التى توضح أن ثمة الآلاف من المواطنين الغربيين الذين يبتغون الانخراط فيما تشهده المنطقة من صراعات غير أنهم لا يمتلكون الأدوات والمعرفة التى تؤهلهم إلى التحرك فعليا للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية فى الإقليم، وهؤلاء يمكن أن يشكلوا بالنسبة للصراع الإقليمى «مقاتلين محتملين» وبالنسبة لدولهم «خلايا نائمة» يمكن أن تتحول بفعل تصاعد حدة المواجهة بين الدول الغربية والجماعات الإرهابية إلى «خلايا نشيطة». بناء على ذلك، فسلسلة حلقات الفعل ورد الفعل أو ما يمكن أن يطلق عليه «الهجمات المرتدة» المتبادلة ستستمر ولن تسقط من حسابات الجماعات والتنظيمات الإرهابية الميادين الغربية كمسارح محتملة للعنف الجهادي، وذلك بعد أن دقت عمليات داعش أبواب أوروبا رغم كل ما تم اتخاذه من تدابير وإجراءات أمنية مسبقة، خصوصا بعد أحداث شارلى أبدو (يناير 2015)، بما يؤشر إلى أن منطقة الشرق الأوسط قد تشهد بدورها موجات أخرى من العمليات الإرهابية باعتبارها الحلقة الأضعف من حيث التحصين الأمني، وأيضا بالنظر إلى ضخامة أعداد المقاتلين من مواطنيها المنخرطين فى صفوف الجماعات الإرهابية. عابر للقارات وقد يمتد ذلك إلى عدد من دول الأخرى، حيث تشهد الصراعات الإقليمية حضورا كبيرا لمواطنى دول وسط وشرق آسيا وأغلب دول العالم الإسلامي، وبينما يعبر ذلك على أن الإرهاب الجهادى فى أشرس صوره بات عابرا ليس لحدود الدول وحسب، وإنما للقارات أيضا، بل وأضحى بإمكانه القيام بعمليات شبه نظامية فى عدد من الدول فى توقيت متزامن، فالفارق بين أحداث بيروتوباريس على سبيل المثال يوم واحد، بما يؤشر إلى أن موجات العنف باتت تمتلك بوصلات متعددة الاتجاهات، وقد يعنى ذلك أن العديد من القوى الدولية قد تضطر إلى الانخراط فى صراعات الإقليم بشكل أكبر وأعمق، وهو ما قد لا يفضى بالتبعية إلى خفوت حدة الإرهاب وإنما إلى تصاعد وتيرته، بما يمثل مفارقة بارزة، فجهود مكافحة الإرهاب قد تفضى فى مرحلتها الأولى إلى مزيد من الهجمات الإرهابية، وهو ما يتطلب قدرة على دفع التكلفة ووعى بمخاطر عدم الاستعداد لذلك.