في حياة كل منا شخصية أو شخصيات جديرة بالثناء, وتأمل تأثيرها المهني, والفكري, والإنساني في مساراتها واتجاهاتها, وقلة من هذه الشخصيات تجمع ما بين الحسنيين, أي التأثير المهني والإنساني, ومنهم الراحل القدير الأستاذ محمد عيسي الشرقاوي, احد العلامات البارزة صاحبة البصمة في قطاع الشئون الخارجية بصحيفة الأهرام لثلاث عقود, الذي رحل عن دنيانا قبل عامين تاركا خلفه فراغا كبيرا علي مستويات عدة. بالتأكيد ليس هينا علي المرء الكتابة عن انسان اقترب منه لسنوات متعاقبة, وبمرور الوقت نشأت بينهما علاقة وثيقة تعدت في تفاصيلها ومجرياتها اليومية الحيز المهني المحدود في زمنه ونطاقه, والصيغة المألوفة بين أستاذ وتلميذ, وتطورت وتعمقت لتصبح بين صديقين يجمعهما التلاقي الفكري والروحي. خلال مراحل تطور تلك العلاقة كنت محظوظا باكتشافي مناطق ومآثر في شخصيته كانت خفية علي الكثيرين ممن تعاملوا مع الأستاذ الجليل, الذي كان يحبذ قلة الكلام, وتوجيه كامل تركيزه وجهده للعمل الذي بقي مخلصا ومحبا له حتي آخر عمره, هذا الإخلاص الذي دفعه للابتعاد عن جلسات النميمة المعهودة في الوسط الصحفي والإعلامي, ومعارك تكسير العظام لتولي منصب والتقرب لمسئول يغدق عليه العطايا والمزايا, فظل يؤمن ايمانا لا يتزعزع أن العملة الجيدة تفرض نفسها, ما دام الصحفي يعمل علي تحديث أدواته وثقافته ويزداد انفتاحا علي كل ما هو عصري في عالمنا, وهو ما نفتقده في كثيرين من صحفيي هذه الأيام. اعترف بأن الفضول شكل عنصرا محوريا في علاقتنا, منذ لقائنا الأول عام1989, لدي التحاقي بالعمل في القسم الخارجي, حيث تابعت عن قرب أسلوبه الهادئ الرزين في ادارة القسم الخارجي والذي كان يحتل مكانة رفيعة متميزة, لا سيما أنه كان زاخرا وعامرا بزملاء كبار أصبحوا نجوما لامعة في سماء الصحافة, من بينهم ومع حفظ الألقاب حازم عبد الرحمن, وعبد العظيم حماد رئيس تحرير الأهرام بعد ثورة25 يناير, وسامية الجندي رحمها الله, وسجيني دولرماني, وليلي حافظ, ومحمد صابرين, وعاصم القرش رئيس تحرير الأهرام ويكلي السابق , وعاصم عبد الخالق, وزينب الأمام, وعماد عريان, وسمير الشحات وغيرهم, حيث لاحظت أن قيادته اتصفت دائما بالحزم, والحسم مع حرصه الشديد علي أن يكون الاحترام والتوقير هو السائد في التعامل بين آل الخارجي. الأستاذ عيسي لم يكن يقبل بأقل من الجودة والاتقان في الصياغة والترجمة, فلا تسامح مع عدم الدقة والاستسهال حتي عند كتابة الأخبار القصيرة المكونة من أربعة اسطر, ومصيبتنا الآن في إعلامنا المقروء والمرئي غياب الدقة وعدم التيقن من المعلومات, ونقل المسطرة من مواقع الانترنت دون اشارة للمصدر. الراحل بقي وفيا حتي الرمق الأخير لمبدأ نقل الخبرات بين الأجيال داخل الأهرام باعتباره القوة الدافعة والمنشطة للنجاح واستمراريته. فقد كان هناك أساتذة أفاضل يتولون تدريب الوافدين الجدد في الصحيفة العريقة, وارشادهم إلي الاتجاهات الصحيحة التي تقوي وتدعم ساعدهم المهني, وتصقل مواهبهم, وتعطيهم فرصتهم الكاملة لإظهار ملكاتهم وابداعاتهم, هؤلاء الأساتذة أدوا واجبهم علي اكمل وخير وجه, وكنا نجلهم ونوقرهم ونأخذ بنصائحهم وإرشاداتهم, وبفضلها تربت الأجيال المتعاقبة في الأهرام. خلية النحل العاملة بالقسم الخارجي ما إن تنهي أشغالها الشاقة تلتف كأسرة مترابطة حول مائدة واحدة بكافتيريا الدور الرابع ذائعة الصيت في عالم الصحافة المكتوبة, لنيل قسط من الراحة, وتبادل وجهات النظر بشأن القضايا الخارجية والداخلية, وما اطلعوا عليه من كتب صادرة حديثا في مصر وخارجها, وتدريجيا تنقلب الجلسة الي ما يشبه المنتدي الثقافي الذي استفاد منه جميع الملتحقين آنذاك بالقسم الخارجي. وكان الراحل العزيز يشارك بهذه الجلسات, أو ينزوي بمكتبه لإنهاء بعض الشئون الإدارية أو مهام طلبها منه رئيس التحرير الأستاذ إبراهيم نافع الذي ابدي دوما تقديرا بالغا له لعلمه باخلاصه وكفاءته وصدقه, وحينما كان نافع يرسل مذكرات إليه لتدريب صحفيين جدد بالقسم تمهيدا لتعيينهم كان يستجيب لما يقرره الأستاذ عيسي بلا اعتراض أغلب الأحيان, فإن كان الزميل غير مؤهل للعمل به يحوله لقسم آخر يناسب إمكاناته ومؤهلاته, ونادرا ما فرض نافع عليه شخصا رفضه لأسباب موضوعية ومهنية محضة. حتي ذلك الحين انحصرت علاقتي بالأستاذ عيسي في الجانب المهني, واجتياز الاختبارات المتوالية التي وضعني فيها, إلي أن ترك موقعه كرئيس للقسم متجها لألمانيا مديرا لمكتب الأهرام هناك, واقتصرت لقاءاتنا علي المرات القليلة التي يعود فيها زائرا للوطن, وعقب عودته أصبح مسئولا عن الطبعة العربية. حينئذ بدأت اكتشف أمورا غابت عني في شخصيته من خلال جلساتنا الودية المطولة في مكتبه, ووجدت فيضا من المشاعر الدافئة والصفات الانسانية الرائعة, فلم يبخل بنصيحة علي الصعيدين المهني والإنساني, وكنت استمع إليه باهتمام من علي المقعد المجاور لمكتبه, ورأيت الجهد الذي يبذله في كتابة زاويته حكاية سياسية وتجويده فيها لتخرج في أحسن وأبهي صورة ممكنة صباح كل سبت, والاطلاع علي مصادر عديدة طوال الأسبوع لانتقاء ما يصلح منها من معلومات تتوافق مع فكرته, وكان يشعر بخجل عندما يسمع كلمة إطراء وإشادة من الزملاء والقراء وكتاب لهم وزنهم كالراحل أنيس منصور. الحظ وقف بجانبي بانتقالي لمكتب مجاور له وكنا علي موعد كل صباح لنتحدث في نواح شتي خاصة يوم الخميس وهو الموعد المحدد لتسليم مقاله الأسبوعي فيه, وربما أبوح بسر أنه عندما أحيل للتقاعد خلال عام حكم الإخوان الرديء كانت أمامه فرصة سانحة للمد, شريطة أن يلتقي بمسئول من الجماعة, لكنه رفض رفضا تاما, وقال إنه اكرم له المكوث في بيته علي استجداء الاستمرار في موقع أفني فيه عمره وصحته بشكل رأه مهينا. موقفه هذا زاده مكانة, وحينما كان يغيب لظروف تخصه كنا نعوض جلساتنا بالمحادثات التليفونية التي تستمر مدة, وخلالها ظل بشوشا ودودا ولم تفارقه الابتسامة وروح المرح, حتي وقت مرضه, وخلت نفسه من الأحقاد والضغائن. اللافت أنه لم يكن يحب أن يسبب ازعاجا من أي نوع, وعندما مرض لفترة وجيزة قبل وفاته لم يعرف بمرضه سوي عدد قليل من المحيطين به, إلي أن فوجئنا بموته, وتذكرت محادثة هاتفية بيننا قبل نقله للمستشفي وكان صوته ضعيفا والوهن باديا عليه, وما أن سألته, رد بأنه بخير, وأنه يستمتع بوقته, ويحاول تعويض ما فاته بسبب انهماكه وانغماسه حتي النخاغ في العمل, وكلما تكلمنا ابدي ملاحظات كثيرة عن تغير نمط سلوك المصريين بعد الثورة للأسوأ, وأنه عليهم الانتباه والتراجع خطوات للوراء قبل فوات الأوان. واليوم كلما مررت علي مكتبه القديم وكرسيه الشاغر استعيد ذكريات سنوات خصبة من الصحبة الجميلة, وابتسامته التي لم تفارق يوما جسده النحيل, وعزائي في أن من زرع خيرا سيحصد ثماره اليانعة الطيبة, وأن سيرته العطرة لا تزال حاضرة في ردهات وغرف أهرامنا العتيق.